فكل هذا التقرير قام على فهمهم للوجود وأن اشتراكه يعني الذهني، وجعلهم هذا الذهني المطلق الكلي موجودا حقيقيا يخالف الوجود العيني.
لذلك ورد عليهم إشكال خطير، وهو إن قلتم الوجود مشترك، و الماهية غيره، أو الوجود قدر زائد عليها، وطردتم ذلك في القديم والمحدث، لزم تركب القديم، من الوجود والماهية، وتركبه مستحيل عندكم ـ ولابن سينا تقرير طويل في بساطته عز وجل ـ زعم! ـ.
من ثم اضطربوا فقال بعضهم الوجود زائد عن الماهية في الممكن، بخلاف القديم، فوجوده عين ماهيته!!
قال الطوسي مقررا ذلك (ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكنا) يعني للزوم التركيب.
يقول الشيخ: (فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك.
وأولئك يقولون الوجود قدر زائد على الماهية ويقولون الماهيات غير مجعولة، ويقولون وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات وماهية كل شيء مختصة به.
ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر فإنا قد قدمنا الفرق بين الوجود العلمي والعيني. وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك. فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، والإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه ونفسه وماهيته وما علمت وجوده حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي ولم يعلم ماهيته الحقيقية ولا عينه الحقيقية ولا نفسه الحقيقية الخارجية فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته إلا أن اللفظين قد يعبر به عن الذهني والآخر عن الخارجي فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود.)
أما الموجود بالمعنى العيني الخارجي فيستحيل أن تقع في مفهومه الشركة، فلا موجود يشبه الآخر في تحققه العيني في الخارج أبدا، لذلك يقول شيخ الإسلام: (وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيا، فالقول فيه كذلك ـ يقصد الشيخ فالقول فيه أن منشأ الوهم تفريقهم بين الحقيقة أي الماهية والوجود جاعلين الوجود الذهني قسيما للخارجي على الحقيقة، وإلا لو أقروا أن الوجود في الخارج لا اشتراك فيه أصلا للزمهم القول إن الوجود ليس مشتركا لكونه عين الماهية الحاصلة في الخارج لأنه ليس في الخارج شيء فوق الماهية ـ فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما العلم يدرك الوجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة)
ولذلك بحث هؤلاء المتكلمون وجه اشتراك الوجود هل هو بالتواطؤ أم بالتشاكك (يعني بالتمايز بين الموجودات في نفس الوجود كالبياض المشترك الذي تتغير درجته بين القطن وناب الفيل ونحو ذلك) والحق أن الوجود مشترك بالتشاكك (على معنى التفاضل، وإلا فهو اصطلاحي كما سيأتي من كلام الشيخ)، فوجود الباري تقدس واجب، فهو أكمل وأحق وأثبت من وجود غيره.
قال الشيخ (فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالا من جهة الاشتباه.وذلك أن الموجودًات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحدًا، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.)
¥