تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما ما ذكرتَه من أن تعريفي للإجماع ناقص، فقد أصبتَ، فهذا ما ذكره الأصوليون، ولكني أرى أن هذا الاستثناء إنما هو من باب الإيغال في التدقيق في الحدود والتعريفات وهو الأمر الذي شغل كثيرا من العلماء طويلا.

فهذا القيد (بعد وفاته صلى الله عليه وسلم) تحصيل حاصل؛ لأن المقصود به أن إجماعهم في حياته لا عبرة به، لأن العبرة بكلام النبي لا بكلامهم، وفي حقيقة الأمر فنحن لا نعرف شيئا أجمع عليه الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، فضلا عن أن يكون مخالفا لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه المسألة مسألة نظرية لا يمكن تحققها في الواقع فيما أرى والله أعلم.

وأما سؤالك عما أعنيه بالسلف الصالح

فإن الله عز وجل شرع لنا من الدين، وأنزل على نبيه الكتاب والسنة، ونحن نأخذ ديننا من هذين الأصلين العظيمين، ولكن:

المشكلة أن بيننا وبين هذين النورين مفاوز تنقطع دونها أعناق المطي، مما يجعلنا أحيانا نخطئ في الفهم عن الله وعن رسوله، ولذلك فلا بد للذي يتبع منهج أهل السنة أن يقيد اتباع الكتاب والسنة بقيد مهم، وهو قولنا (بفهم السلف الصالح)؛ وذلك لأن كل الطوائف تدعي اتباع الكتاب والسنة، وهم من أبعد الناس عن الكتاب والسنة، مثل الجهمية والمعتزلة والخوارج والروافض.

فإذا نظرنا إلى أفهم الناس للكتاب والسنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نجد أعمق نظرا، ولا أعظم عقولا، ولا أكثر فهما، ولا أقرب لصوابٍ من الصحابة رضوان الله عليهم، ولذلك فإذا أشكل علينا شيء من نصوص الكتاب والسنة فإنه يجب علينا أولا أن ننظر إلى فهم الصحابة لهذا النص.

والصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى أن يبحثوا في ثبوت الأدلة؛ لأن النصوص ترد إليهم من مصدرها مباشرة، وكذلك لم يحتاجوا إلى أن يدرسوا لغة العرب فهي لغتهم بالسليقة، وهذان الأمران (أعني صحة السند وصحة اللغة) من أهم شروط المجتهد ليعصم عقله من الخلل في فهم نصوص الكتاب والسنة.

ولكن ماذا لو لم نجد عن الصحابة نصا يدلنا على صحة فهمنا؟ أو اختلفنا في فهم نصوص الصحابة أيضا؟

فحينئذ نرجع إلى التابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، فهم أقرب الناس إليهم، وألصق بهم، وأقدر على فهم ما أشكل علينا؛ لأننا نأخذ بالأخبار عنهم نقلا، وهم شاهدوها عيانا، وليس الخبر كالمعاينة.

وهاتان الطبقتان (الصحابة والتابعون) هما المقصودان عند الإطلاق بقولنا (السلف الصالح).

ولكن الإشكال أحيانا يأتي من بعدنا عن هاتين الطبقتين أيضا، وحينئذ فلا مناص لنا من اتباع السلسلة ومحاولة البحث عن الفهم الأقرب والألصق بهذين الجيلين العظيمين من أتباع التابعين ثم أتباعهم وهكذا حتى عصرنا هذا.

فمهما وجدنا قولا للمتقدم فهو أولى من قول المتأخر؛ لأنك كلما اقتربت من النور كان أبصر لك.

وأنا أتعجب حقيقة ممن ينكر الإجماع وأظن أن من ينكره لم يتصوره تصورا صحيحا؛ لأنك لا تستطيع أن تقيم علما من العلوم مطلقا إلا به؛

فمثلا إذا اختلفنا في معنى كلمة في اللغة العربية، فإلى من نرجع؟ نرجع إلى أهل اللغة، فإذا وجدنا مثلا أن أهل اللغة اتفقوا على أن معنى هذه الكلمة كذا، ولم نر بينهم خلافا في ذلك، فماذا نفعل الآن؟ هل نفهم هذه الكلمة بهذا المعنى أو لا؟

إذا قلت: (نفهم هذه الكلمة بهذا المعنى) فدعني أسألك: على أي شيء بنيت هذا الفهم؟ ولن تجد جوابا إلا أنه إجماع اللغويين.

والدليل على ذلك أنه لا يصح لك أن تخالفهم في هذا المعنى، ولكن إذا وقع بينهم خلاف في معنى الكلمة فحينئذ تنظر في أدلتهم وترجح بين أقوالهم، ولا يجوز لك أيضا أن تخرج عن جميع أقوالهم، بل تتخير منها الأقرب إلى الصواب.

فسواء أجمعوا على المعنى أو اختلفوا فيه، فقد أجمعوا ضمنيا على أنه لا يصح أن تخترع معنى جديدا للكلمة؟

ولننظر مثلا إلى علم الحديث، ومسألة تصحيح الحديث وتضعيفه مما اختلف فيه الناس كثيرا والمعاصرون أكثر وأكثر، فإذا نظرت مثلا إلى رجال السند ووجدت الحديث من رواية (مالك عن نافع عن ابن عمر) فكيف تصحح الحديث أو تضعفه؟

الجواب: أنك مثلا تقول: مالك ثقة ونافع ثقة وابن عمر صحابي والسند متصل، ولا يوجد به شذوذ ولا علة إذن فالحديث صحيح.

أقول لك: وكيف عرفت أن مالكا ثقة وأن نافعا ثقة؟

تقول لي: (إجماع علماء الحديث على ذلك) ولن تجد جوابا غير هذا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير