[حقيقة المقاصد الضرورية]
ـ[الناصري]ــــــــ[19 - 08 - 06, 12:44 ص]ـ
[حقيقة المقاصد الضرورية]
المقاصد الضرورية هي أقوى المراتب في المصالح، وقد عرفت هذه المقاصد أو الكليات بعدة تعريفات:
فعرفها جلال الدين المحلي بقوله:" ما تصل الحاجة إليه إلى حد الضرورة"، وعرفها ابن النجار بقوله:" ما كانت مصلحته في محل الضرورة".
وأشار الشاطبي إليهابقوله: "فأما الضرورية؛ فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين".
وعرفها الدكتور يوسف العالم بقوله:" هي ما لابد منها لقيام نظام العالم وصلاحه بحيث لا يبقى النوع الإنساني مستقيم الحال بدونه".
وهذه التعريفات متقاربة فيما بينها حيث يظهر أن المعرّفين للمقاصد الضرورية قد ضمنوا تعريفاتهم لهذا النوع من المقاصد معنى " الضرورة" المعروف بين العلماء بأنه وصول الإنسان حداً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب.
وهذا المدلول للضرورة _وهو وصول الإنسان إلى حد يبيح له ارتكاب المحظور_ ليس هو مراد العلماء بالمقاصد الضرورية،وإنما مرادهم بالضرورية ما ترتب على فعله أو تركه ضررٌ.
ولا يلزم أن يصل هذا الضرر إلى حد الهلاك،وذلك لخلو كثير من المجتمعات من المقاصد الضرورية ومع ذلك لم تصل إلى حد الهلاك والإضمحلال، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن عاشور في سياق كلامه عن المقاصد الضرورية حيث يقول: "هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها،فإذا انخرمت تؤول حال الأمة إلى فساد وتلاش ٍ، ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكها واضمحلالها، لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم الوثنية، والهمجية، ولكن أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها، وقد يفضي بعض ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو تسلط العدو إذا كانت بمرصد ٍٍمن الأمم المعادية لها أو الطامعة في الإستيلاء عليها، كما أوشكت حالة ا لعرب في الجاهلية".
ويلاحظ على هذا الكلام التفصيلي من ابن عاشور حصره لهذه المقاصد في الجانب الدنيوي وهو بهذا يسير على نسق بعض الأصوليين في تفسير المقاصد الضرورية بمايعود أثره على مصالح العباد في دنياهم، قال الإسنوي _ في سياق كلامه عن المصالح _ " إما دنيوي،بأن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا، أو أخروي: بأن يكون لمصلحة تتعلق بالآخرة.
والدنيوي:إما ضروري،أو مصلحي،أو تحسيني ... فالضروري هو: المتضمن حفظ النفس، أوالعقل، أو الدين، أو العقل، أو المال، أو النسب ... ".
وهذا _في ظاهره_ يخالف كلام الشاطبي المتقدم في شمول المقاصد الضرورية عنده للدنيا، والآخرة.
والذي يبدو أن أولئك العلماء متفقون في شمول أثر هذه المقاصد للآخرة، وذلك لأمور:
الأمر الأول: أن اتساق الحياة الدنيا، واستقامتها، والسعي لعمارتها وتحقيق المقاصد_ بحسب التفسير الذي نص علي الأثر الدنيوي وأغفل الأثر الأخروي _كل ذلك التزام بأمر الله عز وجل وقيام بعبادته وهذا _من هذه الحيثية_ سبيل إلى الأثر الأخروي من الفوز والنعيم والنجاة.
الأمر الثاني: أن الشاطبي _رحمه الله تعالى_ بين أن ارتباط المقاصد الضرورية بالدنيا والآخرة هو كارتباط السبب مع المسبب والمقدمات مع النتيجة بحيث إذا وجدت وأقيمت هذه المقاصد في الدنيا وجد أثر إقامتها في الآخرة،حيث يقول: "فلو عُدم الدين عُدم ترتيب الجزاء المرتجي، ولو عُدم المكلف لعُدم من يتدين، ولو عُدم العقل لارتفع التدين، ولو عُدم النسل لمن يكن في العادة بقاء، ولو عُدم المال لم يبق عيش، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وأنها زاد للآخرة".
وارتباط المقاصد الضرورية بالدنيا والآخرة على هذه الكيفية أحسب أنه ملاحظٌ عند من فسر المقاصد الضرورية بما يحقق أثرها في الدنيا.
وارتباط المقاصد الضرورية بالدنيا والآخرة معاً _ بالرغم من وضوحه واتفاق العلماء عليه_ غير أني آثرت الإشارة إليه لوجود بعض الباحثين المعاصرين ممن يحصر أثر هذه المقاصد في الدنيا على اعتبار أن الغاية هي عمارة الأرض وتحقيق السعادة للإنسان فيها،فتحقيق المقاصد هو السعي للارتقاء بحياة الإنسان وإسعاده وجلب مصالحة حتى يكاد يُستروح من تلك الدعوات المنادية بتفعيل المقاصد في حياة الناس يُستروح منها التفلت في تحقيق تلك المصالح عن الضوابط الشرعية.
مع أن الشاطبي _وهو مقعد المقاصد_ نبه على اطّراح كل مصلحة في الدنيا تعود إلى الدين وعلى أخره الإنسان بالوبال،حيث يقول:" المصالح المجتلبة شرعاً، والمفاسد المستدفعة،إنما تعتبر من حيث تٌقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس من جلب مصالحها العادية أو درء مفاسدها العادية".
فالدنيا إنما تؤخذ على أنها زاد للآخرة،ووسيلة إليها،فكل مصلحة أعانت على لذة في الآخرة فهي لذة شرعية،وكل مصلحة أعقبت ألماً في الآخرة فهي مصلحة غير شرعية.
فنحن نرى كثير من الكتاب والمثقفين اليوم يجعلون المقاصد باباً يلجون منه لتقرير المبدأ العلماني المتمحور حول الإنسان والدنيا ولايلتفتون إلى النصوص الشرعية التي هي ركيزة البحث المقاصدي،ومن خلالها يمكننا تفهم مقاصد الشارع لامقاصد النفوس وأهوائها.
ولعل تلك الدعوات ترجع إلى جذور عقدية متعلقة بالحكمة من خلق الله عز وجل للعباد، ورجوع الحكمة إلى الله تعالى أو إلى العباد.
والخلاصة هو أن المقاصد الضرورية هي: ما تصل حاجة المكلفين إليها إلى حد الضرورة بحيث لو لم توجد لترتب عليه فساد وشقاء في الدنيا ووبال ٌ وعذابٌ في الآخرة. والله أعلم.
¥