تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم إنه لا يكفي التحديد اللغوي وإنما كذلك لابد أولاً معرفة المعنى الشرعي وتحديده، إذ إن عدم تحديد المسميات تحديداً واضحاً دقيقاً يجعلنا لن نصل إلى حل نهائي وجذري لمشاكلنا، ولا أدل على ذلك مثلاً في تحديد معنى لفظة الإرهاب، فالعالم الإسلامي إلى اليوم لم يخرج بمصطلح جامع مانع لهذه الكلمة، فنهاك اختلاف كبير في معنى الإرهاب فكلا يعرفه وفق تصوراته ومفاهيمه فكانت النتيجة أن صار هناك مؤيد ومعارض للإرهاب وفقاً لمفهوم مصطلح الإرهاب لديه، وللخروج من هذه الإشكاليات لابد من تحديد المصطلحات اللفظية تحديداً دقيقاً. " فكم من المعارك نشبت، لو حللناها تحليلا دقيقاً فسوف نجد أن جزءا كبيراً منها إنما يعود إلى عدم الاتفاق على الوضوح الفكري، ونشير إلى الوضوح لا إلى تطابق المفاهيم، لأن هذا احتمال قد يكون بعيداً في بعض الأحوال، لكن ملا بد منه هو أن يعرف كل طرف المعنى الدقيق لما يقوله هو أو يقوله الطرف الآخر. [6] "

ثانياً: دراسة الموضوع المتنازع فيه دراسة مستفيضة، فقبل الخوض في النقاش والأخذ والرد والصراعات الفكرية لابد من معرفة هل المسألة من الأصول أو الفروع، وهل هي من المسائل التي يحتمل فيها الخلاف، وهل اختلف فيها الأقدمون.

ويتوجب كذلك العودة لكتب العلم المعتبرة ودراسة المسألة دراسة متأنية، فإن الجهل بالمسألة ـ ولو كان جهلاً جزئياً ـ قد يكون هو منشأ الخلاف ولهذا جاء في الحديث عند قبض العلماء قوله ـ عليه السلام ـ:" اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" فوقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما، والغالب أن النزاع يكون بين أوساط المتعلمين أكثر وأشد من الراسخين في العلم، وذلك أن طالب العلم قد لا يعرف في المسألة ـ المتنازع فيها ـ إلا قولاً واحداً، فلو وجد أحداً خالفه في هذه المسألة فإنه يقوم الدنيا ولا يقعدها، وقد يبدع ويفسق إن لم يكفر وذلك حسب درجة المسألة، فيجب عند الرد والنقاش استقصاء أقوال أهل العلم ومعرفة الراجح من أقوالهم.

ومما يوسّع دائرة النزاع ويجعل هناك هوة سحيقة بين أصحاب المنهج الواحد هو الغلو في تضخيم المسائل الجزئية والتي يقبل فيها التنازع، وجعل الخلاف فيها كالخلاف في الأصول وهذا مزلق خطير في الفهم. ونحن لو تأملنا قليلاً في المسألة، لوجدنا أن وجود الخلاف في المسائل الجزئية هو ظاهرة صحية؛ بشرط إلا يسبب الفرقة والنزاع. فالصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وكذلك أصحاب القرون المفضلة اختلفوا وتعايشوا بصورة طبيعية مع هذا الاختلاف؛ حتى إنك تجد هناك مذاهب فقهية مختلفة: فمذهب الطبري، والثوري وداود، والمذاهب الأربعة، ولكنهم ـ عليهم رحمة الله ـ كانوا يفقهون مسائلة التعامل مع المخالف.

ثالثاً: الأخذ بالأسلوب النبوي الكريم في عرض المسألة ومناقشة الآخرين، إننا كثيراً ما نفتقد في حوارنا ونقاشنا فن الحوار وآدابه، فنقدم الاتهام قبل المحاورة وهذا كاف لرفض الحق الذي نحمله، وكذلك التشهير على رؤوس المنابر والمنتديات وهذه ليست طريقة شرعية أو أسلوب أدبي نزيه. وإنه من المحزن أن تكون ألفاظ القدح والشتم أكثر من ألفاظ الاحترام والتقدير فضلاً أن تكون أكثر من الاستدلال بالأدلة الشرعية والتي بها يقتنع الخصم. وهنا يشترط علينا ـ ديانة ـ أن نحرر ألفاظنا قبل وعند وبعد المناقشات، بحيث لا تكون حاوية على ألفظ قدح وذم وسخرية واستهزاء وشتيمة، فنحن ما علينا إلا البلاغ والتبيين وليس الإلزام والإقناع بالقوة (وما عليك إلا البلاغ) كل ذلك بلفظ حسن طيب، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وأولى الناس يقال لهم الألفاظ الحسنة هم أهل العلم، ويقول الله تعالى أيضا: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وليس إلى الفحش من القول، فالمؤمن أبعد ما يكون عن فحش في القول والعمل. واستخدام السب والشتيمة ليس دليلاً على أن الحق مع قائلها؛ بل قد تكون دلالة على ضعف الحجة. فكثيراً ما يتجه أصحاب الحجة الضعيفة إلى السب والشتم لإخفاء ضعفه ومحاولة لإسقاط خصمه ولا شك إن استخدام مثل هذا الأسلوب هو إسقاط لمكانة المتكلم بها أولاً.

ولو أخذنا نتكلم عن أدبيات فقه التعامل مع الآخر لطال بنا المقام، ورغبة في الاختصار أذكر بعض المفردات والتي لابد منها في حواراتنا: الإخلاص وابتغاء وجه الله هو القصد والدافع، تقديم حسن الظن، اتهام النفس قبل الآخرين، ملازمة الدعاء للخصم، ترك العناد والتعصب، التنازل فيما يمكن التنازل به، وغير ذلك من الأدبيات الإسلامية السامية. والتي بها نرضي ربنا قبل أن نرضي البشر.


[1] أقصد بالمخالف هنا من كان على منهج أهل السنة والجماعة.

[2] مبادئ الفلسفة (46)

[3] الإحكام في أصول الأحكام (6/ 235)

[4] "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 120)

[5] "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 76)

[6] فلسفات تربوية معاصرة (39)
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير