فهذه المسائل إذا تصورها الناس على وجهها تصورًا تامًا ظهر لهم الصواب، وقَلَّت الأهواء والعصبيات، وعرفوا موارد النزاع، فمن تبين له الحق في شيء من ذلك اتبعه، ومن خفي عليه توقف حتى يبينه الله له، وينبغي له أن يستعين على ذلك بدعاء الله، ومن أحسن ذلك ما رواه مسلم ـ في صحيحه ـ عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وقول القائل الآخر: [كلامه كتب بها]: يقتضي أنه أراد بالحروف ما يتناول المنطوق والمكتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: الَم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)، قال الترمذي: حديث صحيح. فهنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف نفس المداد وشكل المداد، وإنما أراد الحرف المنطوق، وفي مراده بالحرف قولان: قيل: هذا اللفظ المفرد. وقيل: أراد صلى الله عليه وسلم بالحرف الاسم، كما قال: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.
ولفظ [الحرف] و [الكلمة] له في لغة العرب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بها معنى، وله في اصطلاح النحاة معنى. فالكلمة في لغتهم هي الجملة التامة، الجملة الاسمية أو الفعلية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق على صحته ـ: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لَبِيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة)، وقال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته)، ومنه قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ} [آل عمران: 64]، وقوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28]، وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ونظائره كثيرة.
ولا يوجد قط في الكتاب والسنة وكلام العرب لفظ [الكلمة] إلا والمراد به الجملة التامة. فكثير من النحاة أو أكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن اصطلاحهم في مسمى الكلمة ينقسم إلى اسم وفعل وحرف هو لغة العرب، والفاضل منهم يقول:
وكلمة بها كلام قد يؤم
ويقولون: العرب قد تستعمل الكلمة في الجملة التامة وتستعملها في المفرد، وهذا غلط لا يوجد قط في كلام العرب لفظ الكلمة إلا للجملة التامة.
ومثل هذا اصطلاح المتكلمين على أن القديم هو ما لا أول لوجوده أو ما لم يسبقه عدم، ثم يقول بعضهم: وقد يستعمل القديم في المتقدم على غيره، سواء كان أزليًا أو لم يكن، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وقال: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]، وقوله تعالى: {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]، وقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 75،76]، وتخصيص القديم بالأول عرف اصطلاحي، ولا ريب أنه أولى بالقدم في لغة العرب؛ ولهذا كان لفظ المحدث في لغة العرب بإزاء القديم، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وهذا يقتضى أن الذي نزل قبله ليس بمحدث بل متقدم. وهذا موافق للغة العرب التي نزل بها القرآن.
ونظير هذا لفظ [القضاء]، فإنه في كلام الله وكلام الرسول المراد به إتمام العبادة، وإن كان ذلك في وقتها، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200]، ثم اصطلح طائفة من الفقهاء فجعلوا لفظ [القضاء] مختصًا بفعلها في غير وقتها، ولفظ [الأداء] مختصًا بما يفعل في الوقت، وهذا التفريق لا يعرف قط في كلام الرسول،
ثم يقولون: قد يستعمل لفظ القضاء في الأداء، فيجعلون اللغة التي نزل القرآن بها من النادر.
ولهذا يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فَصَلُّوا، وما فاتكم فاقضوا) وفي لفظ: (فأتموا) فيظنون أن بين اللفظين خلافا وليس الأمر كذلك، بل قوله: [فاقضوا] كقوله: [فأتموا] لم يرد بأحدهما الفعل بعد الوقت، بل لا يوجد في كلام الشارع أمر بالعبادة في غير وقتها، لكن الوقت وقتان: وقت عام ووقت خاص لأهل الأعذار؛ كالنائم والناسي إذا صليا بعد الاستيقاظ والذكر، فإنما صليا في الوقت الذي أمر الله به؛ فإن هذا ليس وقتا في حق غيرهما.
ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله، أن ينشأ الرجل على اصطلاح حادث، فيريد أن يفسر كلام الله بذلك الاصطلاح ويحمله على تلك اللغة التي اعتادها.))
اتنتهى كلامه رحمه الله.
وجزاك الله خيرا / اخوك ابو عبد الله المصلحي
¥