تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويناقش ذلك بأنه وإن كان لا يعتبر أكلا أو شربًا في العادة فإن ذلك لا يخرجه عن جملة المفطرات، فالعبرة بدخول الجرم للجوف اختيارًا؛ لدلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم بما يشمل محل النزاع.

وحقيقة الصيام هي الإمساك، وتحقق الإمساك إنما يكون بمنع دخول ذي جرم إلى الجوف.

وقد قرر العلماء أنه لا فرق بين ما يعده العرف أكلا أو شربًا وبين ما لا يعده كذلك، وحكاه النووي في المجموع وابن قدامة في المغني عن عامة أهل العلم وجماهيرهم من السلف والخلف ([11])، ولا فرق بين الجامد والمائع في هذا الباب.

الثاني: أن دخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو ليس قطعيًا فقد يدخل وقد لا يدخل، والأصل صحة الصوم، ولا يزول هذا اليقين بالشك.

ويُرَدُّ على هذا بأنه قد ثبت من الناحية الطبية أن الذي يصل إلى المعدة من الدواء يقارب الثمانين بالمائة والباقي يذهب إلى الجهاز التنفسي، فلم يصر وصول الدواء للمعدة مشكوكًا فيه، وكان المزيل لليقين يقينٌ مثله.

الثالث: بخاخ الربو يدخل مع مخرج النفس، لا مخرج الطعام والشراب.

ويُرَدُّ بأن هذا الفرق بين المخرجين غير مؤثر؛ فالعبرة بالوصول إلى ما يسمى جوفًا دون التفات إلى المخرج.

الرابع: قياس الواصل إلى الجوف من بخاخ الربو على المتبقي من المضمضة والاستنشاق.

وهذا قياس مع الفارق؛ لأن المحل الذي يقصد به الجناية على الصوم إنما هو الحلق، وهو ليس مقصود المضمضة، بل مقصودها هو الفم، بخلافه في بخاخ الربو فإن الجوف مقصود له.

فصار سريان أثر المضمضة إلى الحلق من باب الخطأ الذي هو من عوارض الأهلية؛ فتمام قصد الفعل بقصد محله، وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل.

قال ابن الهمام - مُعَرفًا الخطأ -: "هو أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية" اهـ ([12]).

وقال صدر الشريعة: "هو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدًا تامًا" اهـ ([13]).

وكذلك فإن في الاحتراز عن أثر المضمضة نوع تعذر ومشقة مع كونها مطلوبًا للشارع في الطهارة، والمشقة تجلب التيسير. وقد اشترط العلماء لعدم حصول الفطر بها البصق بعد مج الماء؛ لاختلاط الماء بالبصاق فلا يخرج بمجرد البصق، ولم يشترط المبالغة في البصق؛ لأن الباقي بعده مجرد بلل ورطوبة لا يمكن التحرز عنه.

قال المتولي من الشافعية: "إذا تمضمض الصائم لزمه مج الماء ولا يلزمه تنشيف فمه بخرقة ونحوها بلا خلاف؛ لأن في ذلك مشقة، ولأنه لا يبقى في الفم بعد المج إلا رطوبة لا تنفصل عن الموضع؛ إذ لو انفصلت لخرجت في المج" ([14]).

الخامس: قياس البخاخ على السواك في جواز استعماله للصائم مع وجود بعض المواد فيه والتي قد عفي عنها؛ لقلتها ولكونها غير مقصودة.

ويجاب هنا بما أجيب به عن الدليل السابق، كما أن المعفو عنه هو ما عَسُر دفعه، وأما ما نحن فيه فمقصود متعمد.

قال النووي: "لو استاك بسواك رطب فانفصل من رطوبته أو خشبه المتشعب شيء وابتلعه أفطر بلا خلاف، صرح به الفوراني وغيره" ([15]).

السادس: أنه لا يشبه الأكل والشرب بل يشبه سحب الدم للتحليل والإبر غير المغذية.

وهذا الإلحاق يعترض عليه بالفارق بين بخاخ الربو وبين ما ذكر؛ فإن بخاخ الربو يختلف عن سحب الدم بأن البخاخ داخل وهذا خارج، والفطر مما دخل وليس مما خرج - كما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما -، كما أن البخاخ داخل إلى الجوف من منفذ معتاد، وسحب الدم إخراج لفضلة من فضلات الجسم ومن مخرج غير معتاد فأشبه الحجامة.

وكذلك فإن هناك فرقًا بين البخاخ وبين الإبر غير المغذية في أن الأخيرة لا تصل إلى الجوف من المنافذ المعتادة، وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المسام فقط وما تصل إليه ليس جوفًا ولا فى حكم الجوف، فأشبهت ما لو اكتحل ووجد طعمه فى حلقه فإنه لا يفطر.

قال الفقهاء: لأن الموجود فى حلقه أثرٌ داخل من المسام الذى هو خلل البدن، والمفطر إنما هو الداخل من المنافذ؛ للاتفاق على أن من اغتسل فى ماء فوجد برده فى باطنه أن لا يفطر ([16]).

بعد ذلك إذا تقرر أن بخاخة الربو من جنس المفطرات، فإن مستعملها لا يخلو أن يكون مريضًا مرضًا مؤقتًا أو أن يكون مريضًا مرضًا مزمنًا، فإن كان الأول وهو المؤقت الذي يرجى برؤه فإنه يلزمه القضاء عند التمكن من الصيام؛ وذلك لقوله تعالى:} فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ {[البقرة: 185].

أما من لا يرجى برؤه بأن كان مرضه مزمنًا فإنه يفطر ولا صوم عليه؛ لقوله تعالى:} وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {[الحج:78]، ويلزمه الفدية عن كل يوم إطعام مسكين بما مقداره مد من طعام من قوت البلد كالأرز مثلا، والمد يساوي 510 جم، ويجوز إخراج قيمتها ودفعها للمسكين على ما عليه الفتوى، والله تعالى أعلم.


([1]) أسنى المطالب 1/ 415.

([2]) رواه أبو داود (142)، والترمذي (788)، وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

([3]) المبسوط 3/ 66.

([4]) علقه البخاري عنه - باب الحجامة والقيء للصائم، وأسنده ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 467، والبيهقي في سننه 1/ 116 عن ابن عباس موقوفًا، وصححه النووي في المجموع 6/ 340.

([5]) بدائع الصنائع 2/ 93.

([6]) البحر الرائق 2/ 279.

([7]) شرح الخرشي 2/ 249.

([8]) المنهاج مع شرحه مغني المحتاج 2/ 155.

([9]) المجموع 6/ 335.

([10]) شرح منتهى الإرادات 1/ 481.

([11]) المجموع 6/ 340، المغني 3/ 15.

([12]) التقرير والتحبير 2/ 204.

([13]) التلويح على التوضيح 2/ 389.

([14]) المجموع 6/ 357.

([15]) المجموع 6/ 343.

([16]) رد المحتار 2/ 395، 396.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير