وأيضا فإن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ولا في لسان الشارع ولا في العرف العام ولا الخاص. وأيضا فالحكم من له ولاية الحكم والإلزام وليس للوكيل شيء من ذلك. وأيضا فإن الحكم أبلغ من حاكم لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض فكيف بما هو أبلغ منه" زاد المعاد - (5/ 172
وقال ابن كثير: «سماهما حكمين ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه، وهذا ظاهر الآية "
مناقشة هذا الاستدلال:
ونوقش هذا الاستدلال بأمرين:
1 - أنه إنما سمي الوكيل ههنا حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه، لا أنه له سلطة التفريق.
أحكام القرآن للجصاص - (3/ 152)
ولأنه " يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم أن ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا وينهى الظالم منهما عن ظلمه فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما للصلاح سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا حكمين من هذا الوجه"
أحكام القرآن للجصاص - (3/ 152 - 153)
2 - أن ما ذكروه " لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا ويجوز أمره عليه فيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما فإذا حكم بشيء لزمهما بمنزلة إصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا"
أحكام القرآن للجصاص - (3/ 152)
وأجيب:
بأن هذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره، فهو من التأويل، ولا ملجئ لذلك.
انظر: التحرير والتنوير - (4/ 121)
الثالث- وقوله تعالى: ? إن يريدا ? أسند لهما الإرادة، " والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكليهما"
زاد المعاد - (5/ 172
2 - من الأثر:-
- أخرج عبد الرزاق بسنده أن:" عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت تصبر لي وأنفق عليك فكان أذا دخل عليها قالت أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فيسكت عنها حتى إذا دخل عليها يوما وهو برم قالت أين عتبة بن ربيهة وشيبة بن ربيعة قال عن يسارك في النار إذا دخلت فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت ذلك له فضحك فأرسل إلى بن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما وقال معاوية ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف فأتيا فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما فرجعا "
مصنف عبد الرزاق - (6/ 513) ح (11887)
- وأخرج أيضا بسنده عن عبيدة السلماني قال شهدت علي بن أبي طالب وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس فأخرج هؤلاء حكما من الناس وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين أتدريان ما عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما وأن رأيتما أن تجمعا جمعتما فقال الزوج أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لاتبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك فقالت المرأة رضيت بكتاب الله تعالى لي وعلي"
مصنف عبد الرزاق - (6/ 512) ح11883
- والشاهد في الأول في قول ابن عباس " لأفرقن بينهما" فهو يدل أن الحكم له هذه السلطة.
- والشاهد في الثاني في قول علي للحكمين " أتدريان ما عليكما": فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما؟ وهذا بين".
تفسير القرطبي - (5/ 177)
- وفي قوله: " إن رأيتما أن تفرقا فرقتما وأن رأيتما أن تجمعا جمعتما"، فجعل لهما سلطة التفريق كما جعل لهما سلطة الجمع.
- وفي قوله للرجل: " كذبت لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله" وذلك أنه: " إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله"
أحكام القرآن للجصاص - (3/ 153)
مناقشة هذا الاستدلال:
نوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم له؛ بأن الإنكار وقع على عدم الرضا بكتاب الله؛ وأن عليا " إنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها"
أحكام القرآن للجصاص - (3/ 153)
3 - الإجماع:
فقد قال علي رضى الله عنه- وهو من كبار الصحابة ومن الخلفاء الراشدين: " إن رأيتما أن تفرقا فرقتما وأن رأيتما أن تجمعا جمعتما"،وكان هذا في فئام من الناس، ولم ينقل عن أحد من الحاضرين إنكار عليه، وكذا لم ينقل عن أحد من الصحابة إنكار عليه في قوله هذا.
وكذلك ما وقع من صنيع معاوية وابن عباس، وقد أرسلهما عثمان، وهم من كبار الصحابة.
قال ابن القيم: "وعلي وابن عباس ومعاوية جعلوا الحكم إلى الحكمين ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم". زاد المعاد - (5/ 172
4 - المعقول:
لما كانت الشريعة تدور مع جلب المصالح ودرء المفاسد فإن المصلحة، قد تكون مع التفريق بين الزوجين، ولهذا شرعت الشريعة الغراء الطلاق، وقد يكون في تجميع الحكمين للزوجين مزيدا من العداوة والبغضاء واستحكام الشقاق، فكان لا بد من تخويل الحكمين سلطة التفريق.
انظر: أضواء على شقاق الزوجين للأهدل ص 25
وقال الماوردي" ... ولأن للحاكم مدخلا في إيقاع الفرقة بين الزوجين بالعيوب والعنة وفي الإيلاء، فجاز أن يملك بها تفويض ذلك إلى الحكمين"
الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (9/ 603)
¥