تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(ب) و هل فطن أولئك الدعاء إلى أن العامية لا تثبت على الزمان، و لا تعمر طويلا، و إنما تتغير بتغير الأجيال، و ينتابها التزيد و التحيف في الأحيان المتوالية، إذ لا حارس يدفع عنها الدخيل، و لا قيم يصونها مما يمتزج بها من الغريب، فهي كبيت مفتوح النوافذ و الأبواب من سائر جهاته، لا عائق يمنع داخله، أو يصد قاصده، فلا يلبث أن يمتليء بالأوشاب و الأخلاط، لا تجمعهم جامعة، و لا تؤلف بينهم رابطة، كذلك العامية القائمة لا تلبث بعد زمن يطول أو يقصر أن تتحول إلى عامية جديدة، تتطلب فهما جديدا، و ضوابط مستحدثة، و هكذا دواليك، حينا بعد حين و في هذا ما فيه من عناء موصول متجدد، و جفوة تاريخية بين حاضر الأبناء و أسلافهم، و قطع للصلات الروحية و المادية بين هؤلاء و أولئك، و تنكر للتراث القديم النفيس، و إغفال لما يبثه في النفوس من معاني النبل و الشرف، و الفضيلة في أسمى أوصافها، و أجمل معانيها.

(ج) و هل أدرك الدعاة ما هو أشد خطرا و أفدح ضررا من ذلك كله، ألا و هو تمزيق الوحدة العربية، و تقطيع الروابط الوثيقة التي تربط الناطقين بالضاد أفرادا

/ صفحة 151 /

و أمما، و تجمعهم كتلة متماسكة، و بنيانا متراصا، في وقت تتمنى الأمم المختلفة أن تدرك مثله، و تعمل جاهدة دائبة على تحقيقه، إذ ترى فيه سعادتها، و أمنها، و قوتها، و تبذل في سبيله أغلى ما تملك، في حين هيأه الله لنا باللغة سهلا، ميسرا، بغير بذل و لا جهد، و هي أقوى رباط، و أوثق صلة، فأي حماقة هذه التي تدعونا إلى إهمال ما تسعى الأمم جميعا إليه، و تجري وراء إدراكه في غير ضن و لا هوادة؟

(د) و هل درى أولئك الدعاة ما قرره علماء الاجتماع – بحق – أن اللغات العامية قاطبة في بقاع الأرض المختلفة عاجزة عن التعبير الدقيق عن الخلجات النفسية و المشاعر القومية، قاصرة قصورا فاضحا عن الإبانة الوافية في النواحي الدقيقة من العلوم و الفنون و الآداب الرفيعة؟ و أنهم أجمعوا على أن الخير كل الخير في رفع العاميات إلى مكانة الفصحى و مستواها، لا الهبوط بالفصحى إلى حمأة العامية و دركها.

و بعد. فإن الرجوع إلى الحق فضيلة، و ليس من الشجاعة المحمودة الإصرار على الباطل، دفاعا عن العجز الشخصي الفردي، و تلمسا لراحة النفس راحة زائفة خداعة يزول أثرها سريعا، و يعود الألم بعدها أطول زمنا، و أعنف شدة، و ما أجدرنا أن نفيء إلى الحق، و ندع المكابرة جانبا، فهي بغير العقلاء و المنصفين أولى، و أن نكف عن تلك الدعوة البغيضة التي تتردد في فترات مختلفة، إما عن جهالة بمغبتها، و غفلة عن سوء نتائجها في نواحي حياتنا الثقافية، و الخلقية، و العملية، و إما عن حقد دفين لأهلها، و الناطقين بها، و ألا نخدع بما يقوله المستعمرون و ربائبهم و أبواقهم من طعن في الفصحى، و غمز في مناحي قوتها و تشويه جمالها، فتلك شنشنة المستعمر، يتجه بنظره أول ما يتجه إلى لغة الأمة الضعيفة، و دينها، ليتخلص منهما، و يأمن الكفاح العنيف الذي ينهال عليه من طريقهما، ثقة منه أن لغة الأمة المغلوبة تذكرها بماضيها الكريم، و حاضرها الذليل، و تدعوها إلى الموازنة و النظر، و العمل للتخلص مما هي فيه بمختلف الوسائل الميسرة و غير الميسرة، و أن دينها يدعوها إلى الدفاع عن كيانها، و استرداد كرامتها، و مقاومة المعتدي، و انتزاع حريتها في غير هدوء، و لا ملاينة، و لا استسلام، و ذلك شر ما يصادفه الاستعمار، و أقسى ما يلاقيه المستعمرون.

/ صفحة 260 /

… و اقتراح آخر

في التجديد اللغوي المزعوم

للأستاذ عباس حسن

أستاذ اللغة العربية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة

-2 -

أو ضحت في مقالي السابق دوافع الدعوة الأثيمة إلى اصطناع اللغة العامية دون الفصحى، و إيثارها في ميادين العلوم و الفنون و الآداب ومسارب الحياة، و كشفت عن مواطن الخطأ و الخطر في ذلك.

و قد طالعتني صحيفة يومية بمقال طويل، لكبير من دعاة العامية، يجادلني في رأيي، و لكنه ينتهى في أسلوب عف، و حوار مهذب، إلى ما سماه سؤالا، و ما هو إلا سلسلة من أسئلة مركزة، تتطاول إلى نواح متباينة من العلوم العربية، في نشأتها، و تطورها، و حركتها، و جمودها، و ما فعلت بها يد الأحقاب، و ما عسى أن تقبله اليوم من إصلاح و تجديد، أو تتأباه. فيقول:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير