تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهم مختلفون – كما ترى – في المرويّ عن تلك القبائل على قلتها. و لخلافهم أثره العملي في استنباط قواعدهم وتدوين أحكامها و تطبيقها على ألسنة المتكلمين و أقلام الكاتبين فكيف الشأن و قد غفلوا عن أكثر القبائل، و أهملوا الأخذ عنها؛ مع مالها من تراث لغوى فياض قد تسلل الكثير منه إلى النحاة، مخالفا في بنيته، أو ضبط حروفه، أو تركيب أساليبه لما اقتصروا عليه؟ و من ذلك ما رواه الأشموني في باب كان من قوله: (لا فرق في دخول الباء في خبر ما بين أن تكون حجازية أو تميمية كما اقتضاه إطلاقه و صرح به في غير هذا الكتاب و زعم أبو عليّ أن دخول الباء مخصوص بالحجازية و تبعه على ذلك الزمخشري و هو مردود فقد نقل سيبويه ذلك عن تميم و هو موجود في أشعارهم (كقول الفرزدق: لعمرك ما معن بتارك حقه.)

فلا التفات إلى من منع ذلك).

* * *

و بديه أن لغات القبائل الست و لهجاتهم لا تحوى جميع اللغات و اللهجات في باقي القبائل الكثيرة فذلك ينافي طبيعة اللغة و يعارض القانون الواقعي الذي تسير عليه في نشأتها و تدرجها و تفرعها (2) و مهما تميزت به القبائل الست من القوة و الجاه و النفوذ و بسطة الرقعة – في رأي الرواة – فلن تغير من طبيعة الأشياء و لا من الواقع المشاهد.

من هنا ندت كلمات أصيلة، و أساليب كثيرة صحيحة عما جمعه اللغويون. وفاتهم ذخر لغوي وافر؛ بسبب اقتصارهم في جمع اللغة على بعض القبائل دون بعض بل على القليل دون الكثير؛ و من ثم فات الرعيل أول من النحاة كثير من منابع الأخذ و مراجع الاستنباط كشفت عنهاالأيام بعد ذلك فأثبتت تقصير اللغويين و قصور النحو المؤسس على ما جمعوه، و وقعت بسبب ذلك كله ملاحم و اتهامات بين الشعراء (3) و النحاة المؤيدين من رجال اللغة إذ يقع في كلام أولئك ما لا يرضاه

ــــــــــ

(2) راجع نشأة اللغة و تدرجها في ص 8 من كتاب: بعض الأصول النحوية و اللغوية.

(3) كالذي كان بين الفرزدق و بينهم أو بين بشار كذلك أو المتنبي.

/ صفحة 390 /

هؤلاء. يصفونه بالخطاء و الخروج عن المأثور المنقول فيدفع الشعراء التهمة بأنها وليدة جهل، أو قصور في المواهب، أو في الاستقصاء و يستنبط النحاة مما تهيأ لهم قاعدة عامه (كتجريد الفعل المسند للظاهر من علامة تثنية أو جمع) فيفاجئون بنصوص عربية تخالف ذلك. و يقررون أن المبتدأ لا يكون نكرة و أن الحال لا يكون معرفة و أن التمييز لا يتقدم على عامله و أن المستثنى بإلا في كلام تام يجب نصبه و أن فاعل نعم و بئس لايكون علما و … و … و … فتدهمهم الأمثلة التي تعارضهم. فماذا يصنعون؟ يلجئون إلى التخلص من هذا الضيق بتأويل تلك الأمثلة، أو وصفها بأنها شاذة، أو نادرة، أو قليلة، أو مخطيء صاحبها … أو ماشاءوا من مثل هذه الأسماء التي أصيبت بما أصيب به النحو عامة من اختلاف في تحديد أحكامه، ومرامي قواعده. و نالها ماناله من تفرق في الرأى؛ و اضطراب في الدلالة؛ إذ لم يتفقوا – حتى اليوم – على تعريف هذه الأشياء تعريفا دقيقا و بيان أحكامها في وضوح و ضبط فما الكثير؟ و ما القليل؟ و ما الشاذ؟ و ما النادر؟ … و ما حدّ كل واحد من هذه الألفاظ و أمثالها؟ و من هنا صح ما يقال: إن اللغويين أصحاب الفضل الأول على النحويين، و إنهم كذلك أهل الإساءة الأولى للنحو و النحاة. و هؤلاء و هؤلاء قد أحسنوا أيما إحسان إلى العربية و الناطقين بها و إن كانوا قد مزجوا إحسانهم بإساءة، و خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا.

و غريب أى غريب أن يغفل جامعوا اللغة عن ذلك، و أن يشركهم في الغفلة النحاة مع ما امتاز به الفريقان من أصالة رأى، و ثاقب فكر، و ناجح تدبير، و لا يشفع للغويين أن يقال في الدفاع عنهم إنهم اقتصروا على القبائل الست لأنها – في زعمهم – التي صحت ألسنتها من هجنة العجمة، و احتفظت بنفسها و لغتها عن الأجنبي و الدخيل (فلم يأخذوا عن حضري قط، و لا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ: لا من لخم و لا جذام لمجاورتهم أهل مصر و القبط، و لا من قضاعة و غسان و أياد لمجاورتهم أهل الشام، و أكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، و لا من تغلب و اليمن فإنهم كانوا بالجزيرة

/ صفحة 391 /

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير