تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومن أجل ذلك أخطأ ابن جنى في كل الذي ذهب إليه من قصة ذلك الأعرابي الذي لا يخلو حالة من أمرين؛ فإما أن يكون له ما لنظرائه العرب؛ من استقامة اللسان، وفصاحة اللغة؛ شأنه في ذلك شأن الوبريين الخلص؛ وإذاً لا يكون لابن جنى ولا غيره أن يحاسبه على القلب، أو عدم القلب، وجمع

ــــــــــ

(1) الخصائص ج 1 ص 406.

/ صفحه 196/

الهمزتين، أو تحويل إحداهما، أو غير ذلك من الشئون الصناعية التي لا شأن العربي الأصيل بها، بل لا علم له بشيء منها. وإنما يحذقها المتطبعون، وأهل الصنعة؛ من أمثال ابن جنى، وأضرابه، أما العربي فهو المرجع القاطع. والحجة عليها وليست هي الحجة عليه، وله وحده القول الفصل دون غيره ممن ليسوا عربا خلصا.

وإما أن يكون العربي متهما في فصاحته، وأصالته العربية، وسلامة نطقه ـ فشأنه شأن غيره ممن لا يحتج بعربيتهم، ولا يلتفت إليهم من هذه الناحية بادئ الرأي بشرط أني كون للإتهام أصول، وقواعد مرعيه تطبق تطبيقا عاما لا استثناء فيه ولا تخيير، وهذا ما لم يكن حتى اليوم. وإن الأخذ بكلام ابن جنى معناه أن نفحص عن حال كل متكلم (ولو كان في عصر ابن جنى بل بعده) لنتبين منه سلامة القول، أو عدم سلامته، ثم نحكم عليه بمقتضى ما ينكشف عنه القول وهذا يسلمنا إلى المشكلات التي أشرنا إليها قبلا من أمر البحث ابتداء عن أصحاب القول السليم من العرب الأولين؛ أهم أهل الجاهلية وحدهم أم هم مع فريق آخر بعدهم؟ وما نهاية التfحديد ومداه ... ؟ ثم أيخطئ الجاهليون أم لا يخطئون ... ؟ أسئلة عسيرة الجواب، اضطرب في شأنها كبار الباحثين كما سبق آنفا.

مما تقدم يتضح بجلاء مبلغ اختلاف الأئمة في أمر التوثيق، وفي زمنه، ورجاله، ومكانه، وأن الخلاف ليس لفظياً مناطه مجرد التعريف، وشهوة الجدل المنطقي، بل له آثاره في مادة اللغة، " ونحوها "، وسائر شئونها؛ إذ يِأتي لغوي فيأخذ مادتها من أ عرابي دون أعرابي؛ فيجئ لغوي آخر فيرضى عن الاثنتين معاً، وقد يخالف زميله فيما رضى عنه أو فيما استنكره من فرد، أو من قبيلة، أو عسر. ثم يجري النحاة في أعقابهم؛ فيستنبط فريق أحكامهم من كلام هذا دون ذلك، ويخالفه فريق آخر من النحاة مخالفة قليلة أو كثير؛ فتصدر الأحكام متناقضة، متضاربة وقد يخطئ بعضهم بعضاً، ويخطئون الكلام العربي الذي يستشهد به لتأييد الأحكام، أو يدعون أن قائله غير فصحيح، أو ليس ممن يحتج بكلامه ... أو ... ويضطرب الشعراء والكتاب في سائر العصور المتتالية

/ صفحه 197/

تبعاً لذلك فلا يدرون ما يأخذون وما يدعون. على هذا الرسم جرى الحكم بإخراج الفرزدق وجرير من حلبة الفصحاء الثقات الذين يستشهد بكلامهم في اللغة والنحو عند فريق من الأئمة. وخالفهم آخرون، وكذلك الشأن في الكميت، والطرماح، وغيرهما ممن عاصرهما، أو جاء بعدهما، كبشار، والمتنبي، والمعري، والشريف الرضي.

ولقد رأينا بعض أئمة النحو (كابن هشام في كتبه المختلفة ولا سيما المغني) يستشهد بشعر هؤلاء وأضرابهم، ويحتج ببيانهم. ولكن غيره من مخالفيه يرده، أو يدفع الشواهد بأنها مسوقة لمجرد الاستئناس لا للإحتجاج العلمي ولا الاستدلال القاطع. ولا يسكت الشعراء المجرحون على هذا بل يتهمون الرواة بالغفلة، والتقصير والهوى ـ كما سبق ـ ويرمون النحاة بالغباء، والتصنع، والجمود، والقصور. وقد يخشى النحاة هجاء الشعراء وإقذاعهم؛ فيدارون سفهاءهم؛ بالأخذ عنهم، والاحتجاج بشعرهم؛ كالذي فعله سيبويه أمام النحاة مع بشار، وكالذي فعله غيره ممن سبقوه أو خلفوه مع شعراء آخرين. وهذه هي الفوضي الغامرة، والفساد المبين.

إلى هنا انتهى التصوير الحق للمشكلة التي نشأت منذ عصر التدوين والجمع، ولم يواجهها الأئمة بما يدفع شرها عن اللغة والنحو، ويؤمن الطريق أمام الناطقين والكاتبين في العصور المستقبلة؛ فظللت نتخطى القرون قرنا فقرناً حتى دهمتنا بآثارها، ونالنا منها ما نال أسلافنا؛ فما أكثر أن يتكلم المتكلم، أو يكتب الكاتب؛ فينبري له من يخطئه، ويتهمه بالخروج على النهج العربي الأصيل، ويسوق له من الشواهد والآراء ما يؤيد دعواه، ويقوي تجريحه. وما يكاد يفرغ من الاتهام حتى يوفق المجرح للدفاع عن نفسه، بأن يجد مصوبا يشد أزره، وآراء أخرى تؤيده، وشواهد تثبت قدمه في موقفه؛ فيكر على صاحبه هاجما، مسلحا بما كشف من آراء وشواهد. ويقاومه صاحبه بالطعن

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير