نعم إن اللغة الكزة معيبة كلغة المتون، وكذلك اللغة الملتوية والمضغوطة كلغة سيبويه. وهناك اللغة الفضفاضة بغيضة كذلك؛ كلغة صاحب المفصل في أبواب متفرقة.
ــــــــــ
(1) جاء في كتاب الإمتاع والمؤانسة ج 2 ص 139 ما نصه:
وقف أعرابي على مجلس الأخفش، فسمع كلام أهله في النحو، وما يدخل معه؛ فحار وعجب، وأطرق وسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب قال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا. وقال أعرابي آخر:
ما زال أخذهم في النحو يعجنبي حتى سمعت كلام الزنج والروم
(2) بل إن بعض المتعلمين في العصور القديمة التي ظهرت فيها تلك الكتب لم يفهموها ولم بقدروا على تذليل صعوبتها. فقد نقل الجاحظ في كتابه الحيوان (ج 1 ص 45) أن معترضاً قال لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو؛ فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما لك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟
فقال: أنا رجل لم أضع كتبي ابتغاء وجه الله، ولا زلفي إليه؛ فليست من كتب الدين. ولو وضعتها على الوجه الذي تريدونه لقلت حاجة الناس إلى؛ للسؤال عما لا يفهمونه منها. وأنا غايتي الكسب؛ فوضعت بعضها مفهوماً؛ لتدعوهم حلاوة ما فهموه إلى التماس فهم ما لم يفهموا. وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى الكسب ذهبت ... وهذا سبب آخر عجيب من أسباب صعويه هذه الكتب النحوية.
وهناك سبب آخر لا يقل عن هذا إثارة للعجب والدهش فقد نقل ابن يعيش في الصفحة الأولى من مقدمة كتابه شرح المفضل ما بأتي: (قال الخليل بن أحمد من الأبواب ما لو شئنا أن نشرحه حتى يستوي فيه القوى والضعيف لفعلنا ولكن يجب أن يكون للعالم مزية يعدنا!!).
(3) انظر ما نقله الأشموني عن ابن السراج عند الكلام على واو المعية ... ج 3 ص 231 باب إعراب الفعل. وغيره وغيره ...
/ صفحه 300/
وليس العيب مقصوراً على الاختصار المخل، أو على الالتواء، أو على الاطالة؛ وإنما يمتدّ إلى نواح أخرى بلاغية تتعلق باختيار الألفاظ، وتركيب الجمل وبناء الأساليب، فللنحاة في هذا كله منهج يتوارثونه ويلتزمونه ويحتفظون به. قد يكون ملائماً لعصورهم السالفة، بعيداً كل البعد من عصرنا ـ كما أسلفنا ـ فمن البدائه أن لكل عصر لغته، وللغة كل عصر مقوماتها! ولا سيما اللغة العلية التي تستخدم في إيضاح حقائق العلوم وأسرارها؛ تلك الحقائق التي قد تخلد ولا تتغير. ولكن اللغة التي تترجمها وتعبر عنها لا تثبت على حال، أو لا ينبغي أن تثبت على حال، بل يجب أن تساير الأزمان، وتتشكل بما يناسبها وتعرض في أجمل الطرائق فعجيب ـ إذاً ـ أن يكون للنحاة المحترفين لغتهم المتميزة التي تجافي لغة الأدباء، ولسانهم الذي يفصح عنهم، ويعلن أنهم نحاة وإن لم يصرحوا. وليس عجيباً أن يخشى النحاة المحترفون اليوم فساد ملكتهم الأدبية إن هم أهملوها، ولم يديموا تغذيتها بالزاد الأدبي المتجدد.
وما يقال عن لغة النحو القديم يقال كذلك عن طريقة تأليفه؛ فقد جد اليوم الكثير من طرائق التأليف التي تيسر على القارئ فهم ما يقرأ، وتحبب إليه المعاودة والاستزادة، وتحتفظ له بنشاطه العقلي والجسمي يستخدمها فيما يشاء، وما هذا بالقليل. وكم رأينا مقبلا على النحو زهد فيه بسبب اللغة، وطريقة التأليف. وطالباً كبيراً شكا إلى الله ما يلقى منهما، ونحن ـ معشر المعلمين ـ ندرك من صدق هذا ونشهد من آثاره في الطلاب وفينا ـ ما يجعلنا نقطع بضرورة هذا الإصلاح والمبادرة به، ويحملنا على إطراء من بذلوا جهداً ولو ضئيلا في إخراج كتب نحوية جديدة، في لغة وطريقة جديدة كذلك.
نعم إنها كتب صغيرة ولكنها محاولات فتحوا بها الباب. فعسى أن يتبعهم القادرون فيتممون ويكملون. وقديماً قالوا: أول الغيث قطر ثم ينهمر.
* * *
أما بعد. فهذه عيوب النحو كما أراها ـ برغم فائدته وجليل نفعه وفضل أهله وعظيم عملهم ـ ولا سبيل لتيسيره وتهذيبه إلا بعد القضاء عليها ويومئذ يمكن
/ صفحه 301/
اختصاره بحذف الفضول من أبوابه ومسائله وإدماج بعض آخر ثم الاقتصار على بعض منها للشادين إن أردنا، ثم عرض ما بقي عرضا شائقا جذابا؛ فيجد الناشئه والراغبون في النحو ما يجدونه في العلوم الأخرى التي تجذبهم، وتستهوي ألبابهم، فتزيد الرغبة، وتعم الفائدة، ويتحقق الغرض من دراسة هذا العلم الأساسي الجليل. والقول بغير هذا الكلام لا غناء فيه.
أما من قوم بهذا العبء ويتقدم لحمل الراية، فأولئك الفدائيون الذين وهبوا أنفسهم لخدمة العلوم العربية، والسهر عليها، واحتمال أفدح الأعباء في سبيلها، وكانوا قدوة كريمة الباحثين من حملة مشاعل العلم، ومصابيح العرفان. ولم يخل منهم عصر مضى، ولن يخلو منهم عصر آت. وفي مقدمة هؤلاء علماء الجامعات، ومن يمتون إليها بأقوى الأسباب. فعسى الله أن يمدهم بروح من عنده، ويلهمهم السداد فيما نحن بسبيله، ويهديهم سواء الصراط.
ولا يسعني وأنا أختم هذا البحث الطويل إلا أن أزجى الشكر الأسمى لمجلة «رسالة الإسلام» وللقوامين عليها والمشرفين على شئونها. فقد رأيت من الرجاحة، وحسن القبول، وكريم الاهتمام، ما يقوى العزيمة إن وَهَنت، ويوقظ الهمة إن خمدت، ويشيع في النفس الرغبة والنشاط ويدفع إلى تكرار الشكر، وطيب الثناء، وجميل التقدير.
¥