تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما ظنك بلغة علمية تقوم ـ في أكثر حالاتها ـ على مجافاة الأسلوب الأدبي العذب وينسى أصحابها أن لغة «العلوم» ـ وإن تفردت بخصائص تناسبها وتميزها من لغة الآداب الخالصة ـ لم تقطع صلتها بالنواحي الأدبية ولم يقم بين الاثنين حجاز قويّ يحول بين لغة العلم القاسية المرهقة والاستفادة من أختها الأدبية المحببة بالقدر الذي لا يطغى فيه الأدب على العلم فيخفى بعض حقائقه، أو يشوهها أو يحرمها نصيبها من الدقة الصارمة، والتمحيص الأكمل.

ومن أجل ذلك اشتهر النحاة بلغتهم المتميزة التي تدل عليهم ويعرفها أهل البصر بالآداب. ومن ثم كان لابد للمتن من شرح يفك رموزه، ويوضح ابهامه، ويفصل مجمله، ويزيده بعض مسائل. وللشرح حاشية تزيل غموضه، وتتناول بالتصويب أو التخطئة بعض ما فيه، وتكمل بعض قواعده. وللحاشية «تقرير» هو بمثابة حاشية للحاشية.

نعم من خصائص اللغة النحوية الإيجاز والاختصار الذي يبلغ مبلغ الأحاجي والرموز فيما يسمونه المتون. ولا سيما المنظوم منها. ومن الإنصاف أن نعترف بما لتلك المتون من مزايا جليلة. ولكن تلك المزايا تتحقق في عصور خاصة غير عصرنا القائم. كانت تتحقق يوم كان المتعلمون فارغون لها، منقطعون لحفظها، ودرسها وفك طلاسمها بملازمة أستاذيهم وعلمائهم، والرجوع إليهم وإلى الشروح والتقارير، يوم كانت الحياة هادئة، ومطالب العيش محدودة، والقناعة غالبة، وسنُّ الطلاب كبيرة، وتقربهم إلى الله بإتقان هذه العلوم واحتمال متاعبها قوياً.

أما اليوم فلا شيء من ذلك كله، فالحاجة إلى النحو ليست في المرتبة الأولى لكثير من الناس وطلاب الدراسات العالية (الطب والهندسة ... ) وإنما هي حاجة

/ صفحه 298/

المستكمل الذي تدفعه روح العصر إلى التجمل بألوان من الثقافة العامة لا يليق بالمتحضر أن يجهلها ولا أن يجرد نفسه من قدر منها. فهو ـ في تعلمها ـ غير أصيل، وحظّه منها يسير. ومثل هذا يحتاج إلى ترغيب، ومن خير وسائل الترغيب: اللغة التي تكتب بها تلك العلوم والطريقة التي تعرض بها.

وإذا كانت اللغة الموجزة الكزّة (لغة المتون وأشباهها) معيبة، فشبيه بها اللغة المضغوطة المزدحمة بالدلالات والإشارات والأحكام النحوية الدسمة ـ فهي معيبة كذلك؛ وخير مثال لها كتاب سيبويه الذي يمثل في كثير من نواحيه لغة الفارسي المستعرب، في إيجازها وازدحامها بالمعاني والأغراض ازدحاماً قد يبلغ حد التخمة، مع التواء حيناً، وعجز قد يبلغ حد اللكنة أحياناً. استمع إليه في أول عنوان يفتتح به كتابه فيبين أقسام الكلمة قائلا: «هذا باب علم ما الكلم من العربية».

واقرأ ما جاء في الهامش (1) عن هذا العنوان. واستمع إليه حين يقرر القاعدة النحوية المشهورة وهي: أن الخبر مرفوع بالمبتدأ فيقول (2):

«فأما الذي بنى عليه شيء هو هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع

ــــــــــ

(1) جاء في هامشه المختار (من تقريرات وزبد السيرافي وغيره) ما نصه

(قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية) «أشار رحمه الله إلى ما في نفسه من العلم الحاضر، أو أشار إلى منتظر قد عرف قربه، هذا الشتاء مقبل، وهذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. والثالث: وضع كلمة الإشارة ليشير بها عند الفراغ مما يشير إليه؛ هذا ما شهد عليه الشهود. وقوله: «ما الكلم»، لم يقل الكلام؛ لأنه للكثير، و «الكلم»: جمع كلمة، ولم يقل «الكلمات» لأن «الكلم» أخف، ولأن «الكلم» اسم الذات و «الكلام» المصدر. وأدخل «من» لوجهين؛ أحدهما: تبيين الجنس، والثاني انه قصد إلى الاسم والفعل والحرف، وليس هو كل العربية. ولذلك قال: هذا باب، ولم يقل هذا كتاب، وفي الترجمة خمسة عشر لفظاً!!!».

(2) راجع الأشموني باب المبتدا والخبر حيث تجد شرحه وتوضيحه.

/ صفحه 299/

هو بالابتداء» فأي كلام هذا؟ وما ترجمته (1)؟ فقد تعب أرباب الشروح والحواشي في إبانته وتوصيل مراده إلى الأذهان، فهل تتسع عقول الطلاب وأوقاتهم في عصرنا الحاضر لفهمه وفهم نظائره وإدراك مراجع الضمائر المتعددة فيه وفي أشباهه (2)؟ وإذا احتملوا هذه فكم قاعدة من نظائرها يحتملونها؟ وهل تسمح لهم مطالب الحياة الحديثة بذلك وبالرجوع في الفهم إلى الشروح والحواشي وغيرها؟ وليس سيبويه في هذا بالمتفرد فما أكثر من يشاركونه فيا أخذناه عليه (3).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير