مثلاً: ألف المفكر والكاتب الأمريكي (جوزيف ناي) كتاباً: موضوعه وعنوانه (مفارقة القوة الأمريكية): ومن خلاصات الكتاب: «أن (القوة) الأمريكية الراهنةـ ولا سيما القوة العسكرية ـ لا تكفي ـ وحدها ـ في صياغة نهج أمريكي جديد، يقدم أمريكا للعالم بعقل ورشد، ويتعامل مع الأمم بنبل واحترام مجردين من نزعة الاستعلاء والإملاء. ولقد اقترح جوزيف ناي ما سماه بـ (القوة الطرية الناعمة) كبديل للخشونة والجلافة والرغبة الجامحة في جلد الآخرين وقهرهم .. ثم قدم مفهوماً للقوة الطرية الناعمة .. هذا موجزه: «القوة الطرية الناعمة هي جعل الآخرين يريدون ما تريد طوعاً لا قهراً، وهي الارتباط بمصادر القوة غير الملموسة: كالثقافة والعقيدة والمؤسسات ذات الجاذبية. فإذا استطعتُ أن أجعلك تريد أن تفعل ما تريده، فإنني لن اضطر إلى إرغامك على ما لا تريد .. وتنشأ القوة الطرية الناعمة من قيمنا إلى حد كبير، وهي قيم تعبر عنها ثقافتنا، والسياسات التي نتبعها داخل بلدنا، والطريقة التي نتصرف بها ونتدبر أمورنا دولياً .. والقوة الطرية الناعمة: أكثر من الإقناع أو القدرة على التأثير على الناس بالحجة. إنها القدرة على الإغراء والجذب. وكثيراً ما يؤدي الجذب إلى الموافقة أو التقليد أو الاقتداء .. إننا نستطيع أن نجتذب الآخرين أو ننفرهم بتأثير المثل الذي نقدمه. واكبر خطأ لنا في مثل هذا العالم هو الوقوع في تحليل أحادي البعد والاعتقاد أن الاستثمار في القوة العسكرية وحدها كفيل بضمان قوتنا».
إن نهج التجبر والفظاظة والفرض والإكراه في نشر الديمقراطية (كما قال بعضهم: لا يمكن محاربة الإرهاب إلا بفرض الديمقراطية) .. ان هذا النهج يبتذل الديمقراطية ابتذالاًَ، ويستغلها أبشع استغلال، وهو نهج مثيل لنهج أناس يبتذلون الدين، ويمتهنون قيمه الجليلة بالاستغلال السياسي لها: جهلا وغباء، أو طموحاً سياسياً إلى مكانة لن يصلوا إليها إلا بهذه الوسيلة: في تصورهم وهواهم.
وابتذال الديمقراطية باستغلالها سياسيا في خدمة استراتيجية الفرض والقهر والإملاء والوحدانية: توجه خطر وقاتل، تنبه إليه وحذر منه جمع كبير ولامع من فلاسفة الديمقراطية ومفكريها الغربيين.
أـ «إن للنظام الديمقراطي أنواعاً يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق وتاريخه وتقاليده، وان الدستور الأمريكي ليس إلا واحدا من هذه الأنواع، وانه بالرغم من الفوائد العديدة التي يجنيها الأمريكيون منه، فان هذه الفوائد يمكن الحصول عليها بنوع آخر من أنواع الدساتير والقوانين الديمقراطية» .. الكسس توكفيل في كتابه (الديمقراطية في أمريكا).
ب ـ «وحتى لو قدر للولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية إتباع سياسات أكثر تحبيذا لتطوير الديمقراطية في الأقطار غير الديمقراطية، فان التغيرات، على أي حال، في الظروف الجوهرية كانت ستبقى بطيئة. فالتغير يعتمد على ظروف أولية تشمل العوامل الثقافية والتي هي بذاتها غير مفهومة فهما جيدا، وجذور تنافس الثقافات تكون عادة أعمق من أن تزال بمجرد تدخل خارجي» .. روبرت دال، في كتابه (الديمقراطية ونقادها).
ت ـ «إن الإكراه يتضمن تدخلا متعمداً في الحرية، فالمرء لا يفقد الحرية السياسية إلا في حال منعه من تحقيق هدفه من قبل أناس آخرين» .. ايز برلين في كتابها (حدود الحرية).
هذا نمط من أنماط (ابتذال الديمقراطية) باتخاذها أداة للتخويف والضغط والتدخل والإكراه.
وثمة نمط آخر: يبتذل الديمقراطية: أيما ابتذال .. ويتمثل هذا النمط في (التناقض الحاد) بين القول والفعل .. أو بين الشعار والسلوك .. وهذه نماذج من ابتذال الديمقراطية عن طريق التناقض الذي يفقدها قيمتها ومصداقيتها:
1 ـ ياسر عرفات، وهوجو شافيز رئيسان منتخبان ـ بالمعيار الديمقراطي الغربي ـ بيد أن الإدارة الأمريكية لا تتعامل مع الأول وتطالب بتنحيته، وتضغط من اجل إسقاط الثاني بهذه الوسيلة أو تلك.
2 ـ حصل الرضا الحميم العميم (المباغت) عن زعيم أو نظام عربي، ليس لأنه أصبح نظاما ديمقراطيا: بغتة ـ بالمقاييس الأمريكية أو الغربية ـ فما يزال الحال على ما هو عليه. وإنما حصل الرضا الغامر، والمدح المسرف بسبب أن ذلك النظام قد تجاوب مع (الأجندة الأمريكية) .. وهذا ابتذال للديمقراطية بالتناقض بين القول والفعل.
¥