ومسألة دفن إبراهيم عليه السلام في هذا المكان لا يوجد عليه دليل من الكتاب أو السنة , لأن هذا أمر غيبي لابد من دليل لمعرفته، لكن كتب التاريخ أجمعت على أن إبراهيم عليه السلام مدفون في هذا المكان من غير أن يحدّدوا موضع القبر بعينه كما هو بالنسبة إلى قبر النبي.
قال ابن كثير رحمه الله: " فقبره [أي إبراهيم عليه السلام] وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيلاً بعد جيل من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا , أن قبره بالمربعة تحقيقاً، فأمّا تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن المعصوم ". انتهى
المبحث الثاني: من الذي بنى هذا البناء أو السور الذي حول المقبرة؟ وأما بناء السور فلم يثبت أن سليمان عليه السلام قد بناه، ويقول العامة أن الذي بناه هم الجن وهذا من الخرافات، وإنما قالوا ذلك لأن هذا القبور من أن تهان أو تتأثر بالعوامل الخارجية , وكذلك – والله أعلم – ليُعرف أن هذا المكان فيه قبور كيلا يبنى عليه أي بناء، بدليل أن سقفه كان مفتوحا ولا يوجد له باب لدخوله.
ثم جاء العهد الروماني فسقفوا سقفه وبنو فوق السور بناء آخر بحيث جعلوه كنيسة يتعبّدون
فيها , وفي نفس الوقت حصنا يتحصّنون فيه عند غزو الأعداء. (فالناظر إليه اليوم يجده بشكله يشبه الحصن أكثر مما يشبه غيره)، وكان ذلك عام (37) قبل الميلاد. ثم جُدّد مرة أخرى إلى كنيسة عام (1172 م) تحت حكم الإفرنج.
المبحث الثالث: هل كان هذا المكان معروفا زمن النبي:
جاءت بعض الروايات في كتب التاريخ عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي أقطعه الأرض التي بها بلد إبراهيم الخليل عليه السلام وما حولها، فجاء في الروايات ذكر (بيت إبراهيم) و (مسجد إبراهيم) و (آثار إبراهيم). وهذه الروايات لم تثبت عن النبي، بحيث ذُكرت بأسانيد واهية ومنقطعة.
وأما ما رُوي عن النبي أنه قال: لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل عليه السلام على قبر إبراهيم عليه السلام فقال لي انزل فصلّ ركعتين ها هنا فإن ها هنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام.
ورُوي أيضا أنه قال: من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام.
فهذه الأحاديث وغيرها لم تصح عن النبي، بل هي مكذوبة موضوعة على النبي، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. المبحث الرابع: متى تحوّلت المقبرة الإبراهيمية إلى مسجد يصلّى فيه؟
اعلم – رحمك الله – أنه لا يجوز أن تحوّل المقبرة إلى مسجد للعبادة، وذلك سدّا للذريعة وخوفا من أن يؤدي هذا الأمر إلى عبادة أصحاب هذه القبور – والعياذ بالله – كما حصل مع قوم نوح عليه السلام، وما يحصل اليوم عند قبر علي والحسن والحسين، وعند مشهد السيدة زينب في مصر، إلى غير ذلك من مظاهر الشرك المنتشرة في بلاد الإسلام.
وهذا المكان (أي المقبرة الإبراهيمية) معروف منذ مئات السنين على أنه مقبرة ولم يكن مسجداً ولا معبداً , لكن لما كان من دين اليهود والنصارى بناء المساجد أو المعابد فوق قبور الصالحين كما جاء في الصحيحين من حديث أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير , فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " فقاموا إلى هذا المكان ونقبوه وفتحوا له باباً وبنو عليه كنيسة وجعلوه مركزاً دينياً لهم , له مكانته المقدسة عندهم.
ثم جاء بعد ذلك الفتح الإسلامي , وقلَّد بعض الناس من المسلمين اليهود والنصارى في تعظيم الصالحين , فقالوا نحن أحق بالأنبياء منهم , وحوّلوا هذا المكان من كنيسة إلى مسجد ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ وصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال:" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه , قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟! ".ويمكن أن يقال: إن الذين حوّلوا هذا المكان إلى مسجدٍ يصلى فيه هم الفاطميون في زمن الدولة الفاطمية على أيدي الخلفاء الفاطميين.
¥