" وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان؛ أحدهما: حديث سالم، والثاني: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت: " دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله .. إنه أخي من الرَّضاعة. فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "انظرن من إخوانكنَّ من الرَّضاعة، فإنَّ الرَّضاعة من المجاعة".
فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرِّمُ اللبنُ الذي لا يقومُ للمُرضَع مقام الغذاء، إلا أنَّ حديث سالم نازلة في عين، وكان سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرون ذلك رخصة لسالم، ومن رجَّح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنّها لم تعمل به قال: يحرِّم رضاع الكبير" ا. هـ
أدلة الأقوال السابقة:
أولاً: أدلة القول الأوّل:
1. قال ـ تعالى ـ: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة: 233]
قال في "المغني" (9/ 202): "فجعل تمام الرضاعة حولين، فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما" ا. هـ
2. عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " لا يحرِّم من الرَّضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" أخرجه الترمذي (1152) في الرضاع، وابن حبّان في "صحيحه" (1250)، وابن ماجة (1946) مختصراً، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في الإرواء (2150).
قال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في "زاد المعاد" (5/ 512):
"قالوا: فجعل تمام الرضاعة حولين، فدلَّ على أنَّه لا حكم لما بعدهما، فلا يتعلق به التحريم. قالوا: وهذه المدة هي مدة المجاعة التي ذكرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقصر الرضاعة المحرمة عليها. قالوا: وهذه مدة الثدي الذي قال فيها: "لا رضاع إلا ما كان في الثدي"، أي في زمن الثدي، وهذه لغة معروفة عند العرب، فإنَّ العرب يقولون فلان مات في الثدي أي: في زمن الرضاع قبل الفطام، ومنه الحديث المشهور: "إنَّ إبراهيم مات في الثدي وإنَّ له مرضعاً في الجنة تتم رضاعه" ـ يعني إبراهيم ابنه صلوات الله وسلامه عليه ـ. قالوا: وأكد ذلك بقوله: "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام" فهذه ثلاثة أوصاف للرضاع المحرم، ومعلوم أنَّ رضاع الشيخ الكبير عار من الثلاثة" ا. هـ
3. واستدلوا بما روي عن أبي موسى الهلالي عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً: " لا رضاع إلا ما أنشر العظم، وأنبت اللحم" أخرجه أبو داود (2059)، والبيهقي (7/ 461)، وإسناده ضعيف لجهالة أبي موسى الهلالي وأبيه كما في الإرواء (2153)، والصواب وقفه على ابن مسعود كما حقق ذلك الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1798) ولفظه:
" لا رضاع إلا ما شدَّ العظم، وأنبت اللحم" فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألونا وهذا الحبر فيكم.
قالوا: ورضاع الكبير لا ينبت لحماً، ولا يُنشز عظماً.
4. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: "انظرن إخوتَكُنَّ من الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضَاعة من المجاعة". أخرجه البخاري (2647)، و (5102)، ومسلم (1455) واللفظ له.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 68 ط: دار مصر للطباعة):
"قوله: "فإنما الرضاعة من المجاعة" فيه تعليل الباعث على إمعان النظر والفكر؛ لأن الرضاعة تثبت النسب وتجعل الرضيع محرماً. وقوله: "من المجاعة " أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلا لسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه فيصير كجزء من المرضعة فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله ـ تعالى ـ: (أطعمهم من جوع) " ا. هـ
وقال ابن القيّم في "زاد المعاد" (5/ 516):
¥