فتأمل .. كيف قال: (لا يعجبني) فيما نصَّ الله سبحانه على تحريمه.
واحتج هو أيضاً بتحريم الله له في كتابه.
وقال في رواية الأثرم: (أكره لحوم الجلالة وألبانها).
وقد صرَّح بالتحريم في رواية حنبل وغيره.
وقال في رواية ابنه عبد الله: (أكره أكل لحم الحية والعقرب؛ لأن الحية لها ناب، والعقرب لها حمة).
ولا يختلف مذهبه في تحريمه.
... ، وهذا في أجوبته أكثر من أن يستقصى.
وكذلك غيره من الأئمة.
وقد نصَّ محمد بن الحسن: أنَّ كل مكروه فهو حرام؛ إلاَّ أنه لما لم يجد فيه نصاً قاطعاً لم يطلق عليه لفظ: (الحرام).
وروى محمد أيضا عن أبي حنيفة وأبي يوسف: إلى أنه إلى الحرام أقرب.
وقد قال في الجامع الكبير: يكره الشرب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء).
ومراده التحريم.
وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: (يكره النوم على فرش الحرير، والتوسد على وسائده).
ومرادهما التحريم.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: (يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير).
وقد صرَّح الأصحاب: أنه حرام، وقالوا: إن التحريم لما ثبت في حق الذكور، وتحريم اللبس يحرم الإلباس، كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها.
.... ، وهذا كثير في كلامهم جداً.
وأما أصحاب مالك: فالمكروه عندهم مرتبة بين الحرام والمباح، ولا يطلقون عليه اسم الجواز.
ويقولون: (إن أكل كل ذي ناب من السباع: مكروه، غير مباح).
وقد قال مالك في كثير من أجوبته: (أكره كذا)؛ وهو: حرام.
فمنها: أن مالكاً نصَّ على كراهة الشطرنج.
وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم.
وحمله بعضهم على الكراهة التي هي دون التحريم.
وقال الشافعي في اللعب بالشطرنج: (إنه لهو، شبه الباطل، أكرهه، ولا يتبين لي تحريمه).
فقد نصَّ على كراهته، وتوقَّف في تحريمه.
فلا يجوز أن ينسب إليه، وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز، وأنه مباح، فإنه لم يقل هذا، ولا ما يدل عليه.
والحق أن يقال إنه كرهها، وتوقَّف في تحريمها.
فأين هذا من أن يقال إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحته.
ومن هذا أيضاً: أنه نصَّ على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا، ولم يقل قطُّ: إنه مباح، ولا جائز.
والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه، الذي أجلَّه الله به من الدين = أنَّ هذه الكراهة منه على وجه التحريم.
وأطلق لفظ الكراهة: لأن الحرام يكرهه الله ورسوله.
وقد قال تعالى عقيب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)، إلى قوله: (ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما)، إلى قوله: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق)، إلى قوله: (ولا تقربوا الزنا)، إلى قوله: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، إلى قوله: (ولا تقربوا مال اليتيم)، إلى قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) إلى آخر الآيات.
ثم قال: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً).
وفي الصحيح: (إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال).
فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله.
أما المتأخرون فقد اصطلحوا على الكراهة: تخصيص بما ليس بمحرم، وتركه أرجح من فعله.
ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث؛ فغلط في ذلك!!
وأقبح غلطاً منه من حمل لفظ الكراهة، أو لفظ: (لا ينبغي) في كلام الله ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث.
وقد اطَّرد في كلام الله ورسوله استعمال: (لا ينبغي) في المحظور شرعاً، أو قدراً في المستحيل الممتنع.
كقول الله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً).
وقوله: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له).
وقوله: (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم).
وقوله على لسان نبيه: (كذبني ابن آدم وما ينبغي له وشتمني ابن آدم وما ينبغي له).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وقوله صلى الله عليه وسلم في لباس الحرير: (لا ينبغي هذا للمتقين)، وأمثال ذلك)).
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.