أولا ـ ذكر الأدلة الدالة على أن الأصل في المسلم الجهالة:
1) قال تعالى {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282].
قال ابن جرير: ((وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يعني من العدول المرتضى دينهم وصلاحهم)) (6).
وقال القرطبي: ((دل على أن في الشهود من لايرضى؛فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم وذلك معنى زائد على الإسلام،وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال،وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا.
قلت: فعمموا الحكم،ويلزم منه قبول شهادة البدوي على القروي إذا كان عدلا مرضيا وبه قال الشافعي ومن وافقه وهو من رجالنا وأهل ديننا وكونه بدويا ككونه من بلد آخر والعمومات في القرآن الدالة على قبول شهادة العدول تسوي بين البدوي والقروي،قال الله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}، وقال تعالى: {واشهدوا ذوي عدل منكم} خطاب للمسلمين،وهذا يقتضي قطعا أن يكون معنى العدالة زائدا على الإسلام ضرورة لأن الصفة زائدة على الموصوف،وكذلك من ترضون مثله خلاف ماقاله أبو حنيفة ثم لايعلم كونه مرضيا حتى يختبر حاله فيلزمه أن لايكتفي بظاهر الإسلام، .... قال علماؤنا:العدالة هي الاعتدال في الأحوال الدينية وذلك يتم بأن يكون مجتنبا للكبائر محافظا على مروءته وعلى ترك الصغائر ظاهر الأمانة غير مغفل،وقيل: صفاء السريرة واستقامة السيرة في ظن المعدل والمعنى متقارب)) (7).
2) قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما ًجهولا} [الأحزاب:72].
قال ابن تيمية: ((أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ فَهُوَ بَاطِلٌ ; بَلْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وَمُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ عَنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ إلَى الْعَدْلِ)) (8).
وقال ابن القيم: ((إذا شك في الشاهد هل هو عدل أم لا؟ لم يحكم بشهادته، لأن الغالب في الناس عدم العدالة، وقول من قال: الأصل في الناس العدالة، كلام مستدرك بل العدالة طارئة متجددة، والأصل عدمها، فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه، والإنسان خلق جهولاً ظلوماً، فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل، وهما جماع الخير، وغيره يبقى على الأصل، أي فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب)) (9).
3) قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
قال القرطبي: ((وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجُرحة؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم؛ فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة)) (10).
4) عن أبى إسحاق قال: كنت في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنت قيس عمر بن الخطاب،فقال: ((ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة رآه لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا؟!)) (11).
قال الخطيب البغدادي: ((الطريق الى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها الا باختيار الأحوال وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة ....
يدل على صحة ما ذكرناه أن عمر بن الخطاب رد خبر فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقتها وسكناها لما طلقها زوجها ثلاثا مع ظهور اسلامها واستقامة طريقتها ... )) اهـ (12).
5) عن خرشة بن الحر قال:شهد رجل عند عمر بن الخطاب _رضى الله تعالى عنه_ بشهادة فقال له:لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك،ائت بمن يعرفك.
فقال رجل من القوم:انا اعرفه.
قال:فبأى شيء تعرفه؟
قال:بالأمانة والعدل.
قال:فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟
قال:لا.
قال:فمعاملك بالدنيار والدرهم الذين بهما يستدل على الورع؟
قال: لا.
قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال: لا.
قال:لست تعرفه!
ثم قال للرجل:ائت بمن يعرفك (13).
¥