ومهما استحسن الإنسان بعقله شيئاً في العبادة، فإنه - أي الاستحسان - ليس دليلاً على مشروعية تلك العبادة، بل إن هذا الاستحسان قد يكون مصادماً لحكم الله تعالى، فلا ينبغي أبداً أن يتعبد الإنسان لله تعالى إلا بما شرع الله على لسان رسوله r .
المبحث الأول: تعريف الذكر الجماعي
الذكر الجماعي يتركب من كلمتين، وإليك بيان معنى كل منهما:
أولاً (الذِّكر): بالكسر: الشيء الذي يجري على اللسان (5)، وتارة يقصد به الحفظ للشيء.
قال الراغب في المفردات: ((الذكر: تارة يقال ويراد به: هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً باحترازه، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره. وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول. ولذلك قيل منهما ضربان: ذكر عن نسيان. وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ)) (6).
وأما معنى الذكر في الشرع فهو كل قول سيق للثناء والدعاء. أي ما تعبدنا الشارع بلفظ منا يتعلق بتعظيم الله والثناء عليه، بأسمائه وصفاته، وتمجيده وتوحيده، وشكره وتعظيمه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه (7).
ثانياً: معنى (الجماعي): هو ما ينطق به المجتمعون للذكر بصوت واحد، يوافق فيه بعضهم بعضاً (8).
والمقصود بكلامنا وقولنا: الذكر الجماعي هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع أدبار الصلوات المكتوبة، أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد، فهذا هو المقصود من وراء هذا البحث.
المبحث الثاني: نشأة الذكر الجماعي
كان مبتدأ نشأة الذكر الجماعي وظهوره في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي ذلك مفصلاً في المبحث الرابع إن شاء الله وقد أنكر الصحابة هذه البدعة لما ظهرت وقد قل انتشار هذه الظاهرة، وخبت بسبب إنكار السلف لها. ثم لما كان زمن المأمون، أمر بنشر تلك الظاهرة. فقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير بعد الصلوات الخمس. فقد ذكر الطبري في تاريخه في أحداث عام 216 هـ
ما نصه: ((وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدؤوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة، يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، من هذه السنة)) (9) وجاء في تاريخ ابن كثير: ((وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد، يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس)) (10). فكان هذا مبتدأ عودة ظاهرة الذكر الجماعي إلى الظهور وبقوة، بسبب مناصرة السلطان لها. ومن المعلوم أن السلطان إذا ناصر أمراً، أو قولاً ما، ونشره بالقوة بين الناس، فلابد أن ينتشر ويذيع، إذ إن الناس على دين ملوكهم.
واستمرت هذه الظاهرة منتشرةً بين الرافضة والصوفية ومن تأثر بهم (11).
هذا وقد جمعوا بين أمرين، هما: الذكر الجماعي، والذكر بالاسم المفرد.
وقد اختلف في جواز الذكر بالاسم المفرد، فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لابد من الذكر في جملة لأنها هي المفيدة ولا يصح الاسم المفرد، مظهراً أو مضمراً، لأنه ليس بكلام تام ولا جملة مفيدة. ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف.
ومن صور هذا الذكر كذلك أن يزيدوا ياءً في (لا إله إلا الله) بعد همزة لا إله. ويزيدون ألفاً بعد الهاء في كلمة (إله) فتصبح (لا إيلاها). ويزيدون ياءً بعد همزة إلا وبعد (إلا) يزيدون ألفاً فتصبح (إيلا الله) وكل ذلك حرام بالإجماع في جميع الأوقات (12).
وكذلك يلحن بعضهم في (لا إله إلا الله). فيمد الألف زيادة على قدر الحاجة، ويختلس كسرة الهمزة المقصورة بعدها ولا يحققها أصلاً، ويفتح هاء له فتحة خفيفة كالاختلاس، ولا يفصل بين الهاء وبين إلا الله (13).
وكذلك من صوره أنهم يذكرون بالحَلْقِ، أي يحاولون إخراج الحروف من الحلق، وهذا يلزمهم بفتح أشداقهم، والتقعر في الكلام، والتكلف في النطق، ومعلوم أن مورد الذكر اللسان والحلق والشفتان لأنها هي التي تجمع مخارج الحروف (14).
¥