تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويقول في موضع آخر:'لذة الآخرة أعظم وأدوم، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين، فإذا قوى اليقين، وباشر القلب؛ آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة، واحتمل الألم الأسهل على الأصعب' [الفوائد ص201]. ولهذا قال بعض الزهاد العبّاد من المتقدمين:'تَرِدُ عليّ الأثقال –يعنى من المصائب والآلام- التي لو وضعت على الجبال تفسخت، فأضع جنبي على الأرض وأقول –مُثَبِّتاً لنفسه-} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [5] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [6] {[سورة الشرح]. ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني' [نزهة الفضلاء [1575]].

والعبد يجب عليه أن يروّض نفسه على الحد الأدنى وهو الصبر؛ لأنه ليس دون الصبر إلا الجزع والسخط، فيذهب الأجر، ولا يُسترد المفقود، ما ذهب لا يرجع، ما فات فإنه لا يمكن أن يعود، وبالتالي ليس على العبد إلا أن يصبر؛ ليؤجر على هذه المصيبة. وأما إذا تسخط، فإنه يأثم، ويفوته الأجر، والنهاية أنه يسلو سلو البهائم من غير احتساب ولا صبر، ولهذا قال بعض خلفاء بني العباس –وهي كلمة حق- يقول:'أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يُدبر' يعني: ما قدره الله كائن لا محالة، ولا سبيل إلى دفعه، فعليك أن تستقبله بالرضى والتسليم .. يقول:'وإذا أدبر أن يُقبل'.

فإذا مات لك حبيب، فلا يمكن أن يرجع من جديد إلى هذه الحياة الدنيا، فليس عليك إلا الصبر. وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول:'اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مُصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يُصيبنا إلا ما كُتب علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به'.

إذا وُجد عند العبد اليقين أن هذه الأرزاق قسمها الله بعلم وحكمة، وأن الإنسان كُتب له رزقه وهو في بطن أمه، فالرزق لا يجلبه حرص حريص؛ فإنه لا يتهافت على الدنيا، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ... اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ... ] رواه ابن ماجة. فما قُسم لك من هذا الرزق؛ سيأتي إليك، ولو اجتمع من بأقطارها على أن يمنعوا منك شيئاً من هذا الرزق الذي كتبه الله عز وجل لك، لا يمكن أن يمنعوه، فلماذا التهافت على الدنيا؟ ولماذا الحرص الذي يُخرج الإنسان عن الاقتصاد في الطلب، وعن التزام أخذ الحلال دون غيره مما حرم الله تبارك وتعالى؟!

* السادس: مما يورثه اليقين- وهو مرتبه فوق الصبر-: الرضا بما قدر الله عز وجل وأعطى وقسم: فاليقين هو أفضل مواهب الله عز وجل على العبد، ولا يمكن أن تثبت قدم الرضا إلا على قاعدة اليقين ودرجته، فمن لا يقين عنده لا يمكن أن يصبر، فضلاً أن يرتقى إلى درجة الرضا بما قدر الله عز وجل عليه من الآلام والمصائب والمحن والبلايا، وما قدر الله عليه من الفقر والمرض، وما أشبه ذلك، الله يقول:} مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ... [11] {[سورة التغابن]. يقول ابن مسعود:'هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله؛ فيرضى ويُسلّم'. ولهذا لم يحصل له هداية القلب والرضا والتسليم إلا باليقين. [مفتاح دار السعادة 1/ 154].وهذا الرضا يكون بقضاء الله عز وجل.

وهذه محاورة وقعت بين الحسن بن على رضى الله عنه، وبين من نقل كلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أبو ذر رضى الله عنه كان يقول:'الفقر أحب إلىّ من الغنى، والسقم –يعنى المرض- أحب إلىّ من الصحة' فلما بلغ ذلك الحسن بن على رضى الله عنه قال:'رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له؛ لم يتمنَّ شيئاً'. وهو حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء، فلا يتمنى أن هذا الأمر من الأمور التي يحُبها من عاجل الدنيا ونعيمها وقع له، ولا يتمنى أيضاً أن هذه المصيبة والألم لم يقع له، وإنما هو راضٍ بما قسم الله عز وجل له، ولهذا يقول: سفيان الثوري رحمه الله - وقد قال له الربيع بن خُثيم:' لو تداويت' أصابه مرض فقال له: لو تداويت، مع أن العلاج والتداوي مباح- فقال:' ذكرت عاداً، وثموداً، وأصحاب الرس، وقروناً بين ذلك كثيراً، كان فيهم أوجاع، وكانت لهم أطباء، فما بقى لا المداوي ولا المداوي'. كلهم قد أفناهم الله عز وجل، فيرضى العبد بما قضى الله عز وجل عليه من ذلك كله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير