إن من الإنصاف ان تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبدعاً، بل حتى لو كان كافراً. ولذلك استنكر ابن تيمية رحمه الله على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين، بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت، وقال رحمه الله: لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق ان نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق.
ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه ..
وهكذا تلوح لك في هذه النصوص، أمارات الإنصاف والعدل، حتى مع الخصوم المباعدين، فضلاً عن الإخوة المتحابين.
وبهذا استمال النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت واستقادت وقبلت الحق، فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان الى الآخرين بالقول والفعل، من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب: {(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)} (فصلت:35)
لما قعد أبو حنيفة للتدريس، قال فيه مساور الوراق:
كُنَّا مِنَ الدِّينِ قَبْلَ اليَومِ فِي سِعَةٍ
حَتَّى بُلِينَا بِأَصْحَابِ الْمَقَاييسِ
قَومٌ إِذَا اجْتَمَعُوا صاحوا كأنهمُ
ثَعَالِبٌ ضَبَحَتْ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ
فسمع أبو حنيفة بذلك، فأرسل له هدية، وكانت هذه الهدية رشوة، لكنها رشوة بطريقة شرعية صحيحة، فلما قبض الهدية قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَوْماً قَايَسُونَا
بِآبِدَةٍ مِنَ الفُتْيَا طَرِيفَهْ
أَتَنْنَاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَحِيحٍ
مُصِيبٍ مَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَاهَا
وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَحيفَهْ
ومن ذلك: ألا تكثر العتاب والمحاسبة، وفي صحيح البخاري: باب من لم يواجه الناس بالعتاب» وذكر فيه حديث عائشة قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فَرَخَّصَ فيه فَتَنَزّهَ عنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ فَحَمِدَ الله ثمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأعْلَمُهُمْ باللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشّيَةً». ومن ذلك عدم الانتقام والتشفي، والانتصار للنفس.
رابعاً: عدم التعصب للمذهب أو الطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب، ولهذا قيل: «حُبكَ الشيء يعمِي وَيُصِمُّ»، إن المتعصب أعمى، لا يعرف أعلى الوادي من أسفله، ولا يستطيع ان يميز الحق من الباطل، وقد يتحول المتعصب بنفس الحرارة ونفس القوة من محب الى مبغض، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، ويروى مرفوعاً، والموقوف أصح: «أَحبب حَبِيبَكَ هَوْناً ما عَسَى أنْ يَكُونَ بغيضك يوماً ما وَأَبْغضْ بغيضك هَونا ما عَسَى أنْ يَكونَ حَبيبكَ يوماً ما».
وقد يكون الغلو أحياناً، أو المبالغة، أو التعصب لأقوام، هم أشد ما يكونون بعداً عن ذلك وكراهية له، ولكنهم قد يبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم.
محمد بن يحيى النيسابوري مثلاً أخذه الحزن على الإمام أحمد لما مات في بغداد، فقال حقٌ على أهل كل بيت في بغداد ان يقيموا مناحة على موت الإمام أحمد، فقال الذهبي رحمه الله: إن النيسابوري تكلم بمقتضى الحزن، لا بمقتضى الشرع، وإلا فان النياحة منهيٌّ عنها في الشريعة.
وقال بعضهم في خُراسان يظنون ان الإمام أحمد من الملائكة، ليس من البشر.
وقال آخر: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة.
قال الذهبي: هذا غلو لا ينبغي.
لقد كان الإمام أحمد رحمه الله رجلاً متواضعاً، بعيداً عن التكلف، ولكنَّ هذه الأشياء قد تخرج من أقوام في حالة انفعال في حزن أو غيره، وبكل حال فهي أقوال مرذولة ينبغي اطّراحها والرد عليها وإنكارها، كما فعل الذهبي وغيره.
وقال محمد بن مصعب لسوط ضربه أحمد أكرم من أيام بشر الحافي كلها، فقال الذهبي رحمه الله بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما هو عند الله تعالى واللّه أعلم بذلك.