تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذه الفرقُ لا تزالُ تُبَدِّعُ بعضُها بعضاً، وتضلِّلُه، وتجهِّلُه. وقد تصادمتْ كما ترى، فهم كزمرة من العميان تلاقوا فتصادموا، كما قال أعمى البصر والبصيرة منهم:

وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى ... فَكِلانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمُوهدى الله للطريقة المثلى، والسبيل الأقوم:

[الصِّنْفُ الخَامِسُ: أَصْحَابُ سَوَاءِ السَّبِيل] فلم يتلوَّثُوا بشيءٍ من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبُهم مذهباً بين مذهبين، وهدىً بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب الْمُعَطِّلِين، والْمُخَيِّلين، والْمُجَهِّلين، والْمُشَبِّهين كما خرج اللبنُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنَاً خَالِصَاً سَائِغَاً للشَّاربين، وقالوا: نصفُّ الله بما وصف به نفسَه، وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ومن غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، بل طريقتنا: إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطِّل، ولا نؤول، ولا نمثِّل، ولا نجهِّل، ولا نقول: ليس لله يدانِ، ولا وجهٌ، ولا سمعٌ، ولا بصرٌ، ولا حياةٌ، ولا قدرة، ولا استوى على عرشه، ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوق، ووجه كوجوههم، وسمع وبصر وحياة وقدرة واستوى كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم، بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازا ليست كصفات المخلوقين، وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستوائه. ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها، كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئاً من صفات الكمال من فهم معنى الصفة، وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقةً، وفهم معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته، وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دانٍ؛ قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها، وجعل لهم السَّبيل إلى معرفتها والتَّمييز بينها وبين أرواح البهائم، وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة، وما في الجنَّة والنَّار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان، وشاهدته عقولهم، ولم يعرفوا كيفيته وكنهه، فلا يشك المسلمون أن في الجنَّة أنهاراً من خمرٍ، وأنهاراً من عسلٍ، وأنهاراً من لبنٍ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته، إذ كانوا لا يعرفون في الدُّنيا الخمرَ إلا ما اعتصر من الأعناب، والعسل إلا ما قذفت به النَّحل في بيوتها، واللبنَ إلا ما خرج من الضروع، والحريرَ إلا ما خرج من فم دود القز، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلاً لما في الدنيا، كما قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الآخِرَةِ إِلا الأَسَمَاءَ، ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها في الدنيا، ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها، وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها، وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن:

[أحدها] قوله ((لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (النحل:60).

[الثاني] قوله ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (الروم:27).

[الثالث] ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (الشورى:11).

فنفى سبحانه المماثلة عن هذا المثل الأعلى، وهو ما في قلوب أهل سمواته وأرضه من معرفته، والإقرار بربوبيته، وأسمائه وصفاته وذاته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير