بعد (22).وهذا الأثر عن عطاء وإن كان مرسلا لأنه لم يدرك الخلفاء الثلاثة إلا أنه فيما يظهر يحكي أمرا مشهورا متواترا في زمنهم، وهو يرد على من يخطب جالسا قرر أنهم كانوا يتشهدون مرة واحدة ولا يجلسون وإنما يخطبون قياما لأنه لم يكن أصلا منبر في المصلى، وفي هذا التقرير حجة قوية لمن قال بأن الخطبة خطبة واحدة ليس فيها جلوس والله أعلم.
أولا -هل خالف عطاء الإجماع
قال أمجد: «وقولك أن عطاء يصف أمرا شاهده لا يستقيم على مذهب أهل الحديث، ثم هو لم يدرك زمن الخلفاء فكيف يصفه، لا يصفه إلا عن واسطة ونحن لا نعلم بالواسطة هنا «
والجواب أنه يصفه باعتباره أمرا متواترا يستغنى في نقله عن الرواية بالإسناد، ورواية الأخبار المتوترة بالإسناد تكلف كما يقول الشافعي،قال رحمه الله في الأم (1/ 457) «…… وهو من الأمور العامة التي يستغنى فيها عن الحديث، ويكون الحديث فيها كالتكلف لعموم معرفة الناس لها». وقال (4/ 63 - 64) «وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكَما وصفت، ولم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف ويلونها حتى ماتوا. وأنَّ نقل الحديث في ذلك كالتكلف».
وقال ابن تيمية في الصارم المسلول (148): «بل بعض ما يشتهر عند أهل المغازي ويستفيض أقوى مما يروى بالإسناد الواحد».
ولقائل أن يقول: وصلاة العيدين من الأمور الظاهرة المتكررة التي لا يمكن أن يخفى مثلها على عطاء فقيه أهل مكة.
ثانيا -محل الشاهد في قول عطاء
قال أمجد: «وكذلك يقال فى قول عطاء فإننا لا نستطيع أن ننسب له عدم سنية الخطبتين للعيد بل الذى يفهم من كلامه هو عدم سنية الجلوس بين الخطبتين لعدم وجود المنبر فقط ولا يلزم من عدم وجود المنبر عدم الجلوس لاحتمال أن يكون جلس على شىء آخر مرتفع غير المنبر .... وعلى التسليم لا يلزم من عدم الجلوس عدم وجود خطبتين لاحتمال أن يكون خطب خطبتين بسكوت يفصل بينهما أو أى عمل آخر من غير جلوس».
الجواب: أن محل الشاهد كما هو واضح في تقرير الدليل وهو قوله: «إنما كانوا يتشهدون مرة واحدة» أي يفتتحون الخطبة مرة واحدة في أولها، واحتمال الجلوس على الشيء المرتفع وارد لكنه خلاف الأصل وهو لم ينقل، بل نقل ما يقتضي خلافه وهو الخطبة على الراحلة، وفي كلام عطاء دلالة على ذلك فقد نفى الجلوس نفيا عاما قبل الخطبة وأثناءها ولو كان ثمة جلوس في وسطها لاستثناه.
وقولك: «وعلى التسليم لا يلزم من عدم الجلوس عدم وجود خطبتين لاحتمال أن يكون خطب خطبتين بسكوت يفصل بينهما أو أى عمل آخر من غير جلوس» تجويز للاحتمالات البعيدة التي لا أظنك تقول بها، والاحتمال الذي لا تقول به لا ينبغي إيراده، إذ كيف يكون مجرد السكوت هو الفاصل بين الخطبتين، هل هذا هو السنة عند الأئمة الذين قاسوا خطبة العيد على الجمعة؟ هل نصوا على إجزاء هذه الصور المفترضة كالسكوت والاشتغال بأي عمل آخر غير الجلوس (كأن يخاطب بعض الناس بكلام خارج عن الخطبة)
ثالثا -أيهما أقوى احتمال الخلاف أم الإجماع
قال أمجد: «إذا تبين هذا فدعوى وجود خلاف فى المسألة محتمل وظاهر السياق وأدلة الجمهور واعتراضاتهم تضعف هذا الاحتمال
وعليه فلا ينقض به الإجماع».
الجواب: نقل الإجماع مفقود وكلام ابن حزم سبق ذكر ما فيه، وتنزل الأئمة كالشافعي إلى الاستدلال بالقياس يرجح عدم وقوعه، فمن يحتج بالإجماع عليه أن يجتهد في تصحيحة بالنقل الموثق عن الأئمة المعتمدين في هذا الباب، ولا أظن المخالف يمكنه إثباته.
أما الخلاف فهو ثابت قطعا بتلك الآثار التي صحت عن الصحابة الذين كانوا يخطبون على الراحلة وبراوية عطاء وقوله، وإذا تبين هذا فدعوة وجود إجماع في المسألة ضعيف وظواهر النصوص ترده.
-هل يمكن القول بتجويز الأمرين؟
ومن المعاصرين من يذهب إلى التخيير بين أن يخطب الخطيب خطبة أم خطبتين، ولعل مستندهم أن النصوص قد دلت على الخطبة الواحدة والإجماع –على قول من أثبته – قد دل على الخطبتين، ولا تعارض بين الأفعال مع تعدد الوقائع والأشخاص، وهو قول وجيه لو صح الإجماع.
ويمكن أن يستدل مستدل لهذا القول بأن الأئمة الأربعة لم يكونوا ليقولوا بقول لم يسبقوا إليه لأن من أصولهم المتفق عليها عدم إحداث الآراء الجديدة خاصة في أمر تعبدي نقلي لا مجال للاجتهاد فيه، وكيف يخفى عليهم أمر عملي متصل يتكرر في كل عام مرتين!! ولقد شغل هذا الاعتراض الأخير بالي مدة من الزمن حتى اطلعت على اختلاف العلماء في محل الأذان للظهر والعصر يوم عرفة فوجدت في المسألة أربعة أقوال مع أنها أمر عملي متصل يتكرر كل عام!! وفيه حديث صريح، فقلت كما اختلف العلماء هنا وخفي الحق على جمهورهم، كذلك وقع الاختلاف في خطبة العيد وخفي الحق عن الأئمة الأربعة، وللفائدة هذه أقوال العلماء فيها
القول الأول: يخطب الإمام حتى يمضي صدر من خطبته أو بعضها ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب وهو قول مالك.
القول الثاني: يؤذن إذا أخذ الإمام في الخطبة الثانية ليكون الفراغ من الأذان مع الفراغ مع الخطبة وهو قول الشافعي.
القول الثالث: يؤذن إذا صعد الإمام المنبر كالحال في الجمعة وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور.
القول الرابع: يؤذن بعد انتهاء الخطبة وهو مذهب أحمد واختيار ابن حزم وهو الصحيح المنصوص عليه في حديث جابر الطويل.
وخطبة عرفة خطبة واحدة في مذهب أحمد كما في الإقناع (1/ 387) وهي خطبتان عند أصحاب المذاهب الثلاثة.
¥