قال الحافظ ابن عبد البر: [انفرد الحسن وقتادة بقولهما إنه لا يعق عن الجارية بشيء وإنما يعق عن الغلام فقط بشاة، وأظنهما ذهبا إلى ظاهر حديث سلمان: مع الغلام عقيقة، وإلى ظاهر حديث سَمُرة: (الغلام مرتهن بعقيقته).
قلت: ولم ينفرد الحسن وقتادة بهذا القول بل نقله ابن حزم عن أبي وائل شقيق بن سلمة وهو من فقهاء التابعين حيث قال: لا يعق عن الجارية ولا كرامة].
وقال ابن قدامة محتجاً لهؤلاء: [لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة].
وقال الماوردي محتجاً لهم: [لأن العقيقة السرور، والسرور يختص بالغلام دون الجارية].
والتعليل الذي ذكره الماوردي وابن قدامة مستبعد عن هؤلاء العلماء الأجلاء فكيف لا يحصل بولادة الأنثى سرور للمسلم وهو يعلم أن ذلك بيد الله سبحانه ولقد نعى الله على أهل الجاهلية تشاؤمهم بقدوم الأنثى وأبطل ذلك. قال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).سورة النحل الآيتان 58 - 59.
فلا يقبل من المسلم أن يتذمر إذا رزق ببنت أو بنات فإن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل من ربى البنات وعلمهن وأدبهن وصبر عليهن وأنهن يكن له حجاباً من النار.
مناقشة وترجيح:
بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة يتضح لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن العقيقة سنة مؤكدة، وليست فرضاً واجباً كما قال الظاهرية، ولا مكروهة ولا منسوخة، كما قال بعض الحنفية.
قال الإمام الشافعي: [أفرط فيها - أي في العقيقة - رجلان قال أحدهما: هي بدعة، والآخر قال: واجبة].
والعقيقة كانت معروفةً عند سلف الأمة ويعملون بها ويحافظون على هذه السنة النبوية قال الإمام مالك: [وليست العقيقة بواجبة ولكنها يستحب العمل بها وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا].
وقال الإمام أحمد: [إنها من الأمر الذي لم يزل عليه أمر الناس عندنا].
وقال أبو الزناد: [العقيقة من أمر المسلمين الذي كانوا يكرهون تركه].
وقال يحيى الأنصاري: [أدركت الناس لا يدعون العقيقة عن الغلام وعن الجارية].
وقال الثوري: [ليست العقيقة بواجبة وإن صنعت فحسن].
وقال ابن المنذر: [وهو - أي أمر العقيقة - معمول به بالحجاز قديماً وحديثاً … قال: وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان المسلمين متبعين في ذلك ما سنَّه رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: وإذا كان كذلك لم يضر السنة من خالفها وعدل عنها].
وقال ابن رشد الجد: [إن من تركها تهاوناً بها من غير عذر فإنه يأثم كسائر السنن].
ومما يؤكد لنا هذا الترجيح:
إن الأدلة التي ساقها الظاهرية ومن وافقهم على وجوب العقيقة مصروفة عن ظاهرها بالنص وهو قوله ?: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك) فعلق ذلك على المحبة والاختيار فهذه قرينة منصوصة، صرفت الأمر من الوجوب إلى الندب، وأحاديثهم محمولة على تأكيد الاستحباب، جمعاً بين الأخبار.
وأما أدلة الحنفية على كراهيتها أو نسخها فالجواب عنهما بما يأتي:
1. إن الحديث الذي احتج به الحنفية أولاً: (نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ... ) حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق ذكرها الدارقطني في سننه وبين ضعفها كما يلي:
أ. حدثنا أبي أن محمد بن حرب نا أبو كامل نا الحارث بن نبهان نا عتبة بن يقظان عن الشعبي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (محا ذبح الأضاحي كل ذبح قبله ... ) هذا الحديث فيه عتبة بن يقظان وهو متروك كما قال الدارقطني، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
ب. نا محمد بن يوسف بن سليمان الخلال نا الهيثم بن سهل نا المسيب بن شريك نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (نسخ الأضحى كل ذبح ... ) هذه الرواية فيها المسيب بن شريك قال فيه يحيى بن معين: [ليس بشيء. وقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال مسلم: متروك]. وضعفه الزيلعي أيضاً.
¥