" فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم " في باب إعمال " ما " النص التالي: أما قول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش واذ ما مثلهم بشر
فشاذن وقيل غلط، سببه أنه تميمي، وأراد أن يتكلم بلغة الحجاز، ولم يدر أن من شرط النصب عندهم بقاء الترتيب بين الاسم والخبر، وقيل مؤول " اهـ.
/ صفحه 57 /
وجاء في حاشية الصبان: " قوله: (وقيل غلط) أي: لحن، وفيه أن المعروف أن العربي لا يقدر أن يلحن، كما أنه لا يقدر أن ينطق بلغة غيره. كذا في الروداني. ثم قال: والذي ينبغي ألا يشك فيه أن ذلك إذا ترك العربي وسليقته. أما ما أراد النطق بالخطأ أو بلغة غيره فلا يشك في أنه لا يعجز عن ذلك، وقد تكلمت العرب بلغة الحبش والفرس واللغة العبرانية، وغيرها. وأبو الأسود عربي، وقد حكى قوله ابنته لأمير المؤمنين علي: " ما أشد الحر " بالرفع. فقول سيبويه في قصته مع الكسائي في مسألة: " كنت أظن أن النحلة أشد لسعة من الزنبار فإذا هو هي "، مرهم يا أمير المؤمنين أن ينطقوا بذلك، لابد من تأويله؛ كأن يقال: المراد مر من لم يسمع مقالة الكسائي، ولم يدر القصة، أو نحو ذلك، مما يقتضي نطقهم على سليقتهم الذي هو المعيار " اهـ، ثم قال الصبان: " وهو كلام في غاية النفاسة طالما جري في نفسي " اهـ.
فما هذه الآراء الكثيرة المتعارضة المتناقضة؟ وما هذه المقارعات العقلية المضنية، وما ضمنته من ألفاظ نابية؟ وأي الآراء نأخذ وأيها ندع؟ ومن حجتنا في إيثار هذا أو ذاك؟ وكيف نضبط في استعمالاتنا المختلفة كلمة: " وبار " وما شاكلها؟ وما نصنع في أسلوب كأسلوب: ليس الطيب إلا المسك ـ وهو كثير الدوران ـ يهمل فيه فريق من العرب " ليس " يهملها فريق آخر؟
إن النحاة موزعون؛ كل يرى الحق في جانبه، ويحكم على قريعه بالخطأ الصراح. والمتعلمون والمتكلمون والكاتبون بين هؤلاء وهؤلاء حائرون، لا تسعفهم ثقافتهم القائمة بتفهم هذا كله أو بعضه ولا يتسع صدرهم لاحتمال قليله، ولا تسمح لهم زحمة الأعمال ومطالب العيش الملحة باحتمال هذا العنت من أجل ضبط كلمة، أو إقامة جملة. وعندهم أن الوقوع في الخطأ ـ على قبحه ـ أهون شأناً، وأيسر ضرراً من بذل الجهد المضني وإضاعة الوقت في تلك المتناقضات التي لم ينته فيها الأعلام إلى رأي موحد، أو مذهب متفق عليه.
ومثال آخر:
قال الأشموني في باب: " إنّ " ما نصه:
/ صفحه 58/
" إذا عطف على المنصوب (أي على اسم إن) قبل استكمال إن خبرها تعين النصب وأجاز الكسائي الرفع مطلقاً تمسكاً بظاهر قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ... وقراءة بعضهم إن الله وملائكته يصلون على النبي، يرفع ملائكته وقوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة، فإني وَقيّارٌ بها لغَريبُ.
وخُرّج ذلك على التقديم والتأخير أو حذف الخبر من الأول ... الخ ".
ثم قال:: قال سيبويه: وأعلم أن ناسا من العرب يغلطون فيقولون إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان ".
وجاء في حاشية الصبان تعليقاً على ذلك:
(قوله وأعلم) ... اعترض بأنه كيف يسند الغلط إلى العرب؛ وأجيب: بأنه لا مانع ذلك؛ لما سبق من أن الحق قدرة العربي على الخطأ إذا قصد الخروج عن لغته، والنطق بالخطأ. وقيل مراد سيبويه بالغلط مجرد توهم أن ليس في الكلم " إنّ ". وهذا هو ما يدل عليه بقية كلامه كما بسطه في المغني، ويحتمل أن مراده بالغلط شدة الشذوذ. اهـ.
وهذا كلام كسابقة لا يتردد المنصف الأريب في دفعه جملة وتفصيلا، سواء منه ما كان منسوباً لسيبويه والمدافعين عنه والمتأولين له، وما كان منسوباً لسواه.
ومثال آخر من قيض المثل الضاربة في الأبواب النحوية.
جاء في شرح التوضيح باب الممنوع من الصرف (ح 2 ص 213) ما نصه: لا يقال " سكرانة " وأما ما نقل عن بني أسد من أنهم يقولون: " سكرانة "، ويصرفون كلمة: سكران، فقال الزبيدي: ذكر يعقوب أن ذلك ضعيف ردئ. وقال أبو حاتم: لبني أسد مناكير لا يؤخذ بها. اهـ.
وجاء صاحب التقرير الذي على الهامش فقال: (قوله: وقال أبو حاتم ... ) وجه كونها مناكير أنها مخالفة للغات الفصيحة. وقد قال: كيف ينظر عليهم ما هو لغتهم التي طبعهم الله عليها؟! هـ.
/ صفحه 59 /
¥