بيِّنٌ واضح مما قدمنا. فليس من المستحسن ـ إذاً ـ بل ليس من المستطاع والأمر كما وصفنا، التوحيد النحوي. وكذلك الشأن لو تفاوتت لغات القبائل ـ كما يرى فريق من الباحثين ـ في مبلغ فصاحتها، نصيبها من السمو والسلامة؛ إذ أننا عند التفاوت سنأخذ عن بعض دون بعض؛ بنقع في مثل ما وقع فيه النحاة الأقدمون، ويجئ النحو الجديد مبلبلا قاصراً كالقديم. فما عسى أن نصنع؟ ليس أمامنا إلا أحد أمرين ـ كما أشرنا في بحث سابق ـ:
أ ـ وضع نحو خاص لكل قبيلة؛ بحيث يلائم لغتها وحدها، وتنطبق أحكامه على لهجتها، ولا يدع شيئاً يتعلق بكلامها ـ من هذه الجهة ـ إلا اشتمل عليه، تاركا ما لا يتصل بها وبلسانها الخاص. وبهذا بتعدد النحو بتعدد القبائل؛ فتجد كل واحدة ما يلائمها، وترتاح إليه ـ كما هو الشأن في القراءات القرآنية قديماً وحديثاً.
لكن هذا التعدد يضعف الروابط الثقافية والمادية بين القبائل العربية؛ بضعف التفاهم اللغوي بينها، وهو هن أواصر القربى والمودة القائمة، ويسلخ حاضر القبيلة من ماضيها، ويفصل بين التاريخ القديم والحديث في القبيلة الواحدة والقبائل الكثيرة، هذا إلى أن " نحوها " الخاص قد يخالف " نحو " القرآن فتعجز عن فهمه الحق، والى أن عزله القبيلة إن استمر في القديم فبقاؤه اليوم عسير، وتلك عيوب وسيئات ترجح حسنة " النحو " الخاص.
ب ـ فلم يبق إلا وضع " نحو " موحد للقبائل العربية كلها، لا يحوي لهجاتها مجتمعة، ولا يضم في ثناياه خصائص كل لغة منها، وإنما يكون أساسه مستمداً من لغة واحدة ممتازة، يعترف لها الجميع بالسمو فوق سائر اللغات، ويعلنون أنها أعلى مكاناً، وأرفع قدراً، وأكمل مزايا من لغاتهم الخاصة، ولا يعترفون لغيره ـ راضين فرحين ـ بهذا الفضل الأوفى؛ تلك هي لغة القرآن التي لا تنسب لقرشي وحده، أو لتميمي وحده، أو لقيسى أو لغيرهم كذلك، فهي لغة عربية حرة، وكفى، وإن شئت فقل: هي لغة للعرب جميعاً، من قبائلهم المختلفة استمدت كيانها ومادتها، ومن ألفاظهم أخذت أصولها (بالرغم مما انفردت به من صياغة معجزة ونظم فريد
/ صفحه 62/
وأغراض جليلة) فلم تقصر نفسها على قبيلة واحدة، ولم تكتف بهذه عن تلك، وليس حظها من الإجلال والإكبار عند عربي بأكمل من حظها عند أخيه، فالجميع في ذلك سواء، والقرآن كله في هذا سواء، وليس من السائغ ولا مما يرتضيه العقل أن يقول بعض النحاة: " إن القرآن قد يجري على غير الغالب القوى ... " مستنبطا ذلك من مثل قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين " وقوله: " وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمما " (1)، فذلك استنباط واهم سنفيض الكلام عليه في موضعه بعد.
فإن احتجنا إلى شئ ولم نجده في لغة القرآن رجعنا إلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، والى ما اشتهر من كلام العرب، في وثيق مراجعه، كالمعلقات، وأشباهها من المأثورات العامة من غير أن نلتفت لقبيلة القائل، أو نذكر اسمها، أو نهتم بشأنها، فذلك لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا أنه كلام عربي صُراح، محاذرين أن نحرك نوازع الغيرة وكوامن الفتنة النائمة؛ بذكر قبيلة باسمها. أو بشيء يدل على تفضيلها.
هذا، وليس ثمة ما يمنع قبيلة أن تصطنع لغتها الخاصة في شئونها القاصرة عليها إن شاءت، وأن تصنع لها " نحواً " يلائم تلك اللغة ويساير أصولها، على أن يكون " النحو " العام وحده هو الدستور المشترك بين العرب والمستعربين جميعاً.
هذه أقوم خطة سديدة كان على النحاة القدامى انتهاجها لو أرادوا لنحوهم كمالا وإبراء من الفساد الذي نشكوه، ولا تزال ـ حتى اليوم ـ أقوم الخطط لتدارك ما فات وإصلاح ما فسد وتحقيق ما تهفو إليه النفوس، وربما ساعد عليها اليوم أن أكثر القبائل القديمة قد باد، أو كاد، أو خفت العصبية القبلية فيه، وأن أكثر الناطقين بالضاد اليوم ليسوا من سلالة العرب وإنْ استخدموا لغتهم، ولا يمتون بصلة إلى البصرة أو الكوفة أو غيرهما. فعلينا اليوم أن نتدارك سريعاً ما فات.
ومن المفيد أن أشير إلى أمر هام؛ هو أن المعيب الفاسد من تعدد الآراء النحوية وتشعب مسائلها ما أدى إلى إعنات المتكلم، أو الكاتب، وتضييق آفاق التعبير أمامه، وأخذ الطريق عليه من غير داعٍ؛ كأن نذكر له من أمر " ليس "
ــــــــــ
(1) راجع الصبان، باب العدد، تمييز العدد المركب.
/ صفحه 63/
¥