المثقفين المحدثين حيناً، ثم خفت الصوت أو اختفى، ذلك أنه يرى الخير في وضع " نحو " يساير اللهجات العامية الإقليمية مستمداً من المذاهب والآراء النحوية القديمة، فلمصر " نحو " مقتبس من الآراء واللهجات العربية القديمة التي تقارب عاميتها، ولسورية ولبنان والحجاز واليمن " نحوها " كذلك، بل لكل إقليم من تلك الأقطار نحوه الخاص به السالف إن أمكن. فإذا كان المصريون يتكلمون في عاميتهم هكذا عن الأسماء الخمسة من حيث إعرابها بالواو في سائر أحوالها فيقولون:
محمد حضر أبوه من الحجاز، وقد رأيت أبوه مسروراً بما تم له من ذلك، فقلت لأبوه: حدثنا عن رحلتك ـ وجب عند وضع النحو المصري أن نراعي حالتهم العلمية فنختار لهم المذهب أو اللهجة التي تلزم الأسماء الخمسة الواو دائما. وهكذا باقي المسائل، في مصر وفي غيرها من سائر الأقطار الناطقة بالضاد.
ولا شك أن هذا رأي فطير لما فيه من تعدد القواعد النحوية بتعدد الأقطار بل بتعدد الإقاليم في القطر الواحد فتنقطع الصلات القديمة والحديثة بينهما كما أشرنا. فوق ما فيه من تجدد العامية وتغيرها بتغير العصور مما يقتضي وجوب تغيير نحوها كذلك دائماً.
ولا يفوتنا أن نذكر بهذه المناسبة أمراها ما جليل الشأن هو أن الخلاف وكثرة المذاهب النحوية، معيب ضار في كل ما يثير بلبلة واضطرابا على الوجه الذي أوضحناه خاصاً بالحركات وضبط حروف الكلمة ضبطاً نحوياً. أما الخلاف في متن الكلمة نفسها وما يتصل بذاتها من حيث وجودها عند قبيلة وعدم وجودها عند أخرى أو وجودها ولكن بصورة فيها مغايرة وبعض تباين فإنه خلاف نافع إذ يزيد ثورة اللغة ويوسع دائرتها ويفسح في المجال أمام الناطق والكاتب فيجد ألفاظ كثيرة وذخيرة وافية من الكلمات.
/ صفحه 190/
.... صريح الرأي في النحو العربي
داؤه ودواوه
للإستاذ: عباس حسن
أستاذ اللغة العربية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة
ـ 5 ـ
... ومشكله ثانية، لم يتنبه اللغويون الأوائل لمعقباتها، أو هم تنبهوا لها ولكن لم يقفوا منها الموقف الحاسم الحازم؛ برأي فيصل يلتزمون حدوده، ويلتزمه بعدهم النحاة وغيرهم من سائر الباحثين؛ تلك هي مشكله: " عصور الاحتجاج وصحة الاستشهاد ".
فقد اتفق الرأي على أن الكلام الذي يحتج به في الشئون اللغوية، ويؤخذ به في الاستشهاد ـ هو كلام العرب الأصيل، الذي لا مجال لا تهامه أو تجريحه. وهم يريدون بالعربي الأصيل من نشأ بالبادية، وأقام فيها حياته؛ فلم يفسد لسانه بلغة الحضر المختلطة، ومعاشرة الأعاجم، ويريدون بالاتهام والتجريح ألاّ يكون معروفا بالكذب اللغوي والاختلاق. أو مصابا بخبل أو جنون ...
ولسنا بصدد الإفاضة في هذا الرأي، ومناقشته من نواحيه المختلفة: قوّيها وضعيفها، موافقها للعقل والواقع ومخالفها؛ فمجال هذا كله بحث آخر.
وإنما الذي نحن بصدده هو أن العربي الأصيل عندهم قد يفقد أصالته اللغوية بسكنى الحضر، وبمخالطة الأعاجم. ويطلقون على كلامه عندئذ، اسم المولد. أو: المحدث وهذه العلة أو التعلة هي التي اعتمد عليها اللغويون الأوائل في الأخذ عن بعض القبائل دون بعض ـ كما سبق تفصيل هذا ـ وهي التي جرحوا بها بعض شعراء الجاهلية الأعلام؛ كعَدِىّ. الأعشى ... ولم تأخذهم بهما
/ صفحه 191/
وبأضرابهما رأفة، ولم يشفع لهما عند القادحين السبق الزمني والفني.
لكن ما السبيل إلى ملازمة البادية ـ في عزله تامة ـ والفرار من مخالطة العجم؟ إن أمكن هذا في عصور الجاهلية فليس بممكن بعد ظهور الإسلام، وامتداد وقعته إلى جهات المعمورة، وانسياب العرب ـ كالطوفان الجارف ـ إلى بلاد العجم غزاة فاتحين، وتسرب الأعاجم إلى قلب البوادي (التي كانت مغلقة في وجوههم) عبيداً، أو إماء، أو حجاجا، أو مقمين، أو زائرين، لوجه من الوجوه المختلفة واختلاط الفريقين معاً اختلاط معاشرة ومعاملة. وقد سوّى الإسلام بين الفريقين في أكثر الحقوق والواجبات، وأزال الفوارق أو كاد: فانتهى الاختلاط المؤقت إلى اندماج تام. وامتزاج كامل ـ في أكثر الأحيان ـ بعد زمن طال أو قصر على حسب الأحوال وتهيؤ الأسباب ...
وإذْ جرى الأمر على ما وصفنا، فقد تعرضت أصالة اللسان العربي للإتهام عندهم والتجريح، وصارت الثقة به مزعزعة عند أولئك المشرعين والرواة اللغويين ومن لف لفهم، وأخذ بطريقتهم من جمهرة النحاة وغيرهم.
¥