وهنا نسألهم: ما مدى الأتصال الذي يعيب أصالة اللسان، ويضعف الثقة به؟ ما حدوده وما قوّته؟ أيكف فيه مجرد الاتصال والاختلاط، ونزول العربي الأمصار؛ سواء أقصرت المدة أم طالت، وكثر عدد الأعاجم أم قل؟ وسواء أكان أهل المصر، متخفظين متحرزين، أم متساهلين منهاونين؟ أفلا يتطلب الأمر مدة (زمينة تكفي لتأثر العربي بالأعاجم في لغته، وتسرب العجمة بمادتها ومظاهرها إلى لسانه؟ فما هذه المدة التي تكفي للعدوي؟ أيوم، أم شهر ... أم قرن ... أم أكثر ... ؟ وما مدى التأثر؟ أقليله وكثيره سواء في التجريح والاتهام، أم لابد من شيوع الفساد وكثرته؟ وما حد القلة والكثرة والشيوع والانحصار؟ ....
تلك أسئلة لم يقطع فيها اللغويون والنحويون السابقون بإجابة شافية موحدة أو قريبة من التوحيد. فمن قائل إن نزول العربي الأمصار محقق الخطر
/ صفحه 192/
على اللغة، ولو قلت المدة، وقل الاتصال فيها بالأعاجم.
ومن مخالف لذلك، مشترط الاقامة وكثرة الاتصال من غير بيان الطول والكثرة. ومن ثالث يقول إن ذلك مشروط بإهمال الفصحفى وبالهاون فيها تهاونا تظهر آثاره بانتشار اللحن وذيوع الخطأ في ذلك المصر. ومن رابع يرى أن الخطر المتوقع لم يتحق إلا بعد قرن للهجرة. ومن مخالف يحدد لذلك قرنين ... أو ثلاثة ... أو .....
آراء متنافرة، وخلف واسع؛ له أثره العميق في اللغة؛ مادتها، " ونحوها " وسائر فروعها. فلك يكن غريبا بعد هذا أن نسمع الراوية اللغوي الكبير أبا عمرو بن العلاء يقول (1): " لقد حسن هذا المولد؛ حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير، والفرزدق. فجعله مولداً فالاضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين. وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين. قال الأصعمي جلست إليه عشر حجج؛ فما سمعته يحتج ببيت إسلامي. وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم ليس النمط واحدا. هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه كالأصمعي. وأبن الأعرابي. أعنى أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب. ويقدم من قبلهم. وليس ذلك لشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ".
ولم يكن غريبا كذلك أن نرى الأصمعي لا يحتج بشيء من شعر الكميت. والطرماح ويعدهما مولدين (2). ويتحدث عن نفسه قائلا " أقمت بالمدينة زمانا، ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة، إلا مصحفة، أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب يضع الشعر، وأحاديث السمر، وكلاما بنسبه إلى العرب؛ فسقط.
ــــــــــ
(1) ما يأتي منقول من كتاب العمدة ج 1 ص 57 ومن المزهر ج 2 ص 304.
(2) المزهر ج 2 ص 254 الطبعة القديمة.
/ صفحه 193/
وذهب علمه، وخفيت روايته " (1).
يقول هذا عن عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الشاعر الكبير والعالم الأكبر في الأخبار (2) (توفي سنة 171 هـ) ويتهمه بما اتهم به الأصمعي من عبد الرحمن ابن أخيه فقد سئل: ما فعل عمك؟ فقال قاعد في الشمس يكذب على الأعراب (3) ".
ويعرض شيخه أبو عمرو بن العلاء عن شعر جرير والفرزدق في الوقت الذي يروي فيه الرواة أن " (الحذاق يقولون: الفحول في الجاهلية ثلاثة متشابهون (4)؛ زهير، والفرزديق ـ والنابغة، والأخطل ـ والأعشى وجرير.) " (5) ولن يصف الحذاق (وهم المختصون بهذا الأمر، الخبراء والأمناء فيه) شاعرا بأنه من الفحصول إلا إذا كان قويم اللغة، صحيح اللسان؛ لأن هذه أول صفات الفحولة، بل أول شرط لوجودها.
ولابن قتيبة رأى يختلف عن هذين؛ فهو يقول. (كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله … ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوما دون قوم؛ بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره …) (6).
ومعنى هذا أنه لا يرتبط في صحة اللغة وبلاغة الكلام بقوم أو بعصر؛ وإنما مناط
ــــــــــ
(1) المزهر ج 2 ص 259 الطبعة القديمة.
(2) المزهر ج 2 ص 259 الطبعة القديمة.
¥