تتجاوزها إلى غيرها، ولا تقتصر على الأوليات؟.
إن غموض هذه المسألة الرئيسية: مسألة القلة والكثرة، أوقع الباحثين قديماً وحديثاً في حيرة واضطراب مؤلمين؛ يصوب هذا ما يخطئه ذاك، ويبيح ذاك
ــــــــــ
(1) لأن المجرح لا يعتد بلغته في موافقة أو مخالفة، ومن أسباب التجريح الخبل والجنون والغفلة، ومنها (ضعف الذاكرة) والشهرة بالكذب أو المرض المذهل كما سبق.
/ صفحه 276/
ما يمنعه سواه، كالذي نشهده اليوم في معاهد التعليم المتخصص، وعلى وجه الصحف، وكالذي نشهده في كتب النحو المبسوطة بين علمائه القدامي (1).
فأما مخالفة قبيلة لقبيلة أو أكثر " وهو أمر طبيعي يقتضيه تدرج اللغة وتطورها " فليس فيه ما يعيب، ولا ما يمنع من الأخذ به واتباعه، إذ كيف يقع الخلاف في شأنه مع ما يسجله الأئمة من أن: " كل ما كان لغة قبيلة يقاس عليه " (2) " والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ " (3).
وأما مخالفة فرد عدل أو أفراد قليلة للكثيرة الغالبة في القبيلة فليس فيه أيضاً ما يعيب، وليس لنا أن نحكم عليه بالخطأ؛ ذلك لأن العربي الخالص لا يخطئ ـ كما سبق توضحيه ـ ولكن الذي يقال في مثل هذا: إنه رب اللغة، ومالكها؛ فله أن يخلق من ألفاظها ما يشاء من غير نكير عليه، وأن يتصرف في مفرداتها، وتراكيبها، وضبط حروفها التصرف الذي يجري بالفطرة، وعلى مقتضى طبعه، " ,إذا قويت فصاحته وسَمَت لغته تصرف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به. وقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها، ولا سبقا اليها " (4) وبغير هذا الخلق والارتجال لا تنمو اللغة ولا تتطور، وبغيره لا يتصور العقل أن
ــــــــــ
(1) وإليك مثلا من عشرات الأمثلة أسوقه استشهاداً وأكتفي به عن نظائره الكثيرة: قال الأشموني في باب كم وكأي: إنهما يلزمان الصدر فلا يعمل فيهما ما قبلهما ... الخ.
ثم قال الصبان تعليقاً على ذلك ما نصه: " قال المرادي: وحكى الأخفش أن بعض العرب يقدم العامل على كم الخبرية، فقيل لا يقاس عليه، والصحيح جواز القياس عليه لأنها لغة، ا هـ. وعليها بني الفراء إعرابه " كم " فاعلا في قوله تعالى: " أو لم يهد لهمكم أهلكنا ... " والوجه أن الفاعل مصدر ... وتخريج الآية على هذه اللغة مع أنها رديئة كما في المغني غير متجه. اهـ " فكيف يكون الصحيح جواز القياس على تلك اللغة مع الحكم عليها بأنها رديئة؟ كيف نوفق بين الأمرين.
(2) المزهر ج 1 ص 153.
(3) الخصائص ج 1 ص 410 وما بعدها.
(4) الخصائص ج 1 ص 424.
/ صفحه 277/
تتجاوز كلماتها العشرات إلى المئات والآلاف، فمن أين تجئ الزيادة إن لم يخلقها العربي الثبت؟ وهل لها معين غير هذا المعين؟ اللهم إلا إذا قلنا " بالتوقيف " وهو رأي لا يكاد يؤمن به اليوم أحد، ومن يدري فقد تكون الألفاظ المرتجلة في زعمنا ليست في الحق والواقع جديدة، وإنما هي بعض تراث لغوي زال أكثره، وبقي أقله لدى فريق من الناس " فحفظوا قّلَّ ذلك أو غاب عنهم أكثره، كما يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه … وكما يقول أبو عمرو بن العلاء: " ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير " (1)، ويقول القاضي الجرجاني: " إذا سمعنا عن العربي الفصيح الذي يعتد حجة، كلمة اتبعناه فيها، وإن لم تبلغنا من غيره، ولم نسمع بها إلا في كلامه " (2).
فاذا كان الأمر ما وصفناه ونقلناه عن الأعلام فكيف تتحقق القلة والكثرة، وتتحقق تبعاً لهما إباحة القياس والمحاكاة حينا أو تحريمهما؟ كيف يقع الاطراد والشذوذ؟ لم أجد لشئ من ذلك رداً مقنعاً، ولا جواباً شافياً. ولطالما قرأت في مطولات النحو تعليقاً على شاهد مخالف للقاعدة: " إنه لغة " أو " إنه لغية " أو " إنه شاذ " فلم أفهم الفرق النحوي الدقيق بين هذه الأوصاف، ولا أثر كل منها؛ وكثيراً ما قرأت لسيبويه أمثال قوله: سمعت أعرابياً يقول: " مررت برجل سواء والعدم ". سمعت أعرابياً يقول: " إنك ومحمد ذاهبان ". وأعرابياً يقول: "عليه أربعة بيضاً " وآخر ... وآخر ... ممن نقل عنهم أمثلة تخالف ما شاع في جمهرة العرب، وعلى ألسنة الكثرة، أفتحرى سيبةيه أمر الأعرابي فعرف شأن لغته هذه؟ أخاصة هي به أم مشتركة بينه وبين قومه أو سواهم؟ فإن انفراد بها العربي فهل نتابعه فيها ولا يتحقق الشاذ؟ وإن لم تصح متابعته فلم سجلها إمام
¥