وهذا تضييق وأعنات لا سند له ولا رضا عنه من تفكير سديد، ولا من جمهرة الأعلام.
على أنى رأيت ابن جني في خصائصه يعقد فصلا للمطرد والشاذ يزعم فيه أنه حل العقدة، وينقله عنه بعض كبار النحاة (1) في معرض الإقناع والاقتناع، وسأنقل منه ما يتصل بموضوعنا لنرى مبلغ التوفيق في محاولته. قال في باب الكلام على الاطراد والشذوذ (2):
... " إن الكلام على الاطراد والشذوذ على أربعة أضرب:
مطرد في القياس والاستعمال جميعاً وهذا هو الغاية المطلوبة، والمثابة المثوبة، وذلك نحو قام زيد، وضربت عمرا، ومررت بسعيد.
ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال، وذلك نحو الماضي من يذر ويدع. وكذلك قولهم: مكان مُبْقل، هذا هو القياس، والأكثر في السماع باقل، والأول مسموع أيضا. قال أبو داؤد لابنه دؤاد: يا بني ما أعاشك بعدي؟ فقال دؤاد:
أعاشني بعدك وادٍ مُبْقِلٌ آكلُ من حَوْزانه وأنْسل
وقد حكى أبو زيد في كتاب " حيلة ومحالة " مكان مُبْقل: ومما يقوى في القياس ويضعف في الاستعمال وقوع مفعول عسى " أي: خبرها " أسماً صريحاً؛ نحو قولك: عسى زيد قائما، أو قياما. هذا هو القياس غير أن السماع ورد بِحَظْرِه والاقتصار على ترك استعمال الاسم ههنا. وذلك قولهم: عسى أن يقوم، عسى الله أن يأتي بالفتح. وقد جاء عنهم شئ من الأول. أنشدنا أبو علي:
أكثرتَ في العذْل مُلِحٍّا دائما لا تعذلن إني عسيتُ صائماً
ومنه المثل السائر: عسى الغوير أبؤسا.
والثالث: المطرد في الاستعمال، الشاذ في القياس، نحو قولهم: أخوص الرِّمْث (3)،
ــــــــــ
(1) كالسيوطي في مزهره ج 1 ص 136.
(2) الخصائص ج 1 ص 99.
(3) الرمث: نبت حامض تزعاه الإبل. واخوص الرمث: صار كالخوص.
/ صفحه 281/
واستصوبت الشئ، ولا يقال: استصبت الشئ، ومنه: استحوذ، وأغْيَلت (1) المرأة، واستنوق الجمل، واستَتْيَسَت الشاة، وقول زهير:
" هناك إن يستخولوا المال يخولوا "
ومنه استغيل الجمل، قال أبو النجم:
يدر عيني مصعب مستغيل
والرابع: الشاذ في القياس والاستعمال جميعا؛ وهو كتتميم مفعول فيما عينه واو، نحو ثوب مصوون، ومسك مدووف، وحكى البغداديون: فرس مقوود، ورجل معوود من مرضه. وكل ذلك شاذ في القياس والاستعمال، فلا يجوز القياس عليه، ولا رد غيره إليه.
وأعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلابد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه، لكنه لا يتخذ أصلا يقاس عليه غيره. ألا ترى أنك إذا سمعت استحوذ واستصوب أديتهما بحالهما، ولم تتجاوز ما ورد به السمع فيهما إلى غيرهما؛ ألا تراك لا تقول في استقام استقوم، ولا في استساغ استسوغ، ولا في استباع استبيع، ولا في أعاد أعْود، لو لم تسمع شيئاً من ذلك ـ قياساً على قولهم: أخوص الرمث.
فإن كان الشئ شاذا في السماع مطرداً في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك، وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله؛ من ذلك امتناعك من وذر، ووَدَع: لأنهم لم يقولوهما. ولا غرو أن تستعمل نظيرهما نحو وزن، ووعد، لو لم تسمعها. فأما قول أبي الاسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه
فشاذ، وكذلك قراءة بعضهم: ما وَدَعك ربك وما قَلى.
.... ومن ذلك استعمالك " أن " بعد كاد، نحو كاد زيد أن يقوم، فهو قليل شاذ في الاستعمال، وإن لم يكن قبيحاً، ولا مأبيّاً، في القياس ".
ــــــــــ
(1) سقت ولدها الغيل: " لبنها حين الحمل ... ".
/ صفحه 282/
هذا رأي ابن جني ونظرائه ومن ارتضاه من نقلة النحاة. وواضح أن أساس الاطراد عنده أحد أمرين أو كلاهما:
أ ـ موافقة اللفظ في صياغته وحركاته لأشباهه الكثيرة العربية ولو لم يكثر استعماله.
ب ـ شيوع استعماله بين العرب وكثرة تداوله، ولو لم يوافق أشباهه العربية. فإذا اجتمع الأمران في لفظ فقد بلغ غاية القوة فيجوز استعماله كما يجوز القياس عليه ومحاكاته من غير نكير، وإذا وجد أحدهما دون الآخر فالمقدم هو الاستعمال والشيوع دون اعتبار لموافقته الأشباه (فيجب الاقتصار عليه نفسه وعدم مجاوزته إلى غيره مما لم يرد به سماع وإذاً يكون القياس عليه وتطبيق حالته على سواه محظور) ومن ثَمَّ كان للشذوذ ثلاث صور يقتصر في كل منها على اللفظ المسموع نفسه بحالته الواردة من غير تغيير فيه ولا توسع. وهي:
¥