وينصرفون عن رأي سيبويه الذي لا دليل يعارضه، ولا ضرورة تدعو لمخالفته كما يقول الرضي بحق وتوفيق؟.
بقي شئ أهم، وسؤال أخطر!! أهذا التأويل الخيالي الوهمي يبيح القياس
/ صفحه 385 /
على ذلك الكلام الاصيل أو لا يبيح؟ إن كان غير مبيح فاصطناعه عبث وإفساد، وإن كان مبيحاً فما أيسره علاجاً نرضاه!! لكن النحاة لا يرضون به ولا يبيحونه.
ب ـ أنت ـ في الشدة ـ العون. إنك ـ من الدنيا ـ رجاؤنا. وعليك ـ في مطالب الحياة ـ اعتمادنا. والاعتراف واجب فضلك ... هذه الأمثلة وأشباهها سقيممة بل فاسدة عند النحاة على الرغم من جريانها على ألسنة الأدباء، وكثرة تداولها اليوم. وحجتهم على فسادها صناعةً أن كلا منهما يشتمل على مصدر قد سبقه معموله أو فصل بينهما. وكلاهما محظور عندهم؛ فلا يجوز تقديم معمول المصدر أو شئ يتعلق بالمصدر، عليه. ولا يجوز أن يفصل بينه وبين معموله بأجنبي. ذلك أن المصدر عامل ضعيف (لأنه فرع الفعل والمشتق في العمل، وإن كان أصلهما في المادة؛ ومن شأن الفرع في المادة أن يكون فيه ما في الاصل وزيادة (1)) وما دام ضعيفاً فلن يستطيع أن يؤثر في معموله المتقدم أو المفصول منه بفاصل أجنبي، فهذا الفاصل الأجنبي بمثابة حاجز حصين أمام مؤثر ضعيف.
وشيء آخر يقوله النحاة (2)؛ هو أن المصدر مع معموله كالموصول مع صلته، كلاهما بمنزلة الجزء من الآخر، ولا يقتدم شيء من الصلة على الموصول ولا يفصل بينهما بأجنبي، فكذلك المصدر مع معموله. فنسائلهم: ما ترون في قوله تعالى: " فلما بلغ ـ معه ـ السعي ... " وقوله: " ولا تأخذكم ـ بهما ـ رأفة ... " وقوله: " إنه على رجعه ـ لقادر ـ يوم تبلى السرائر ... " وقول الشاعر:
وبعض الحلم عند الجهـ ل ـ للذلة ـ إذعان
وقول الآخر:
المن ـ للذم داع ـ بالعطاء فلا تمننْ فتلفَى بلا حمد ولا مال ... ؟
ونسائلهم ما ترون في الموصولات التالية وصلاتها من قوله تعالى: " وكانوا فيه من الزاهدين ... " " إني لكما لمن الناصحين ... " " وأنا على ذلكم من الشاهدين ".
ــــــــــ
(1) الأشموني: باب المفعول المطلق.
(2) الأشموني: آخر باب إعمال المصدر.
/ صفحه 386 /
وقول الشاعر:
لا تظلموا سنورا فإنه ـ لكمُ ـ من الذين وَفَوا في السر والعلن
وقوله: (وأعْرِضُ ـ منهم ـ عمن هجاني ... ).
وقوله: (فإنك ـ مما أحدثت ـ بالمجرب) ... ؟
فيجيبون: هذا مؤول!! ويعرضون ألواناً من التأويل تفزع منها النفس، ويقف أمامها العقل حائراً؛ كيف تقع هذه التأويلات من أئمة أعلام نحارير في أسمى أسلوب عربي؟ وكيف يحملها الزمان عصراً فعصراً ويطوي بها القرون؛ لا يصادفها من يقف في طريقها ويحول بينها وبين سلامة الوصول إلينا؟ ومن شاء أن يرجع إلى هذا التأويل فأمامه المراجع المطولة " ومنها همع الهوامع، باب الموصول. والأشموني وحاشيته، باب إعمال المصدر. وفيهما الكفاية الواسعة ".
وقد يقنع من ذلك بأن يعلم أنهم يؤولون في أمثلة المصدر بتقدير مصدر آخر يتصل بالمعمول الموجود، ولا يُفصل منه بفاصل أجنبي كما لا يفصل من توابعه، وبذا يكون في الكلام مصدران أحدهما مقدّر، والآخر ظاهر موجود أول الأمر.
وقد يقدرون عاملا آخر غير مصدر إن اقتضى الأمر ذلك. يقولون في الأمثلة السابقة: فلما بلغ ـ معه ـ السعي، تقديره: فلما بلغ السعي، مع السعي. ولا تأخذكم ـ بهما ـ رأفة، تقديره: ولا تأخذكم رأفةٌ بهما رأفة. إنه على رجعه ـ لقادر ـ يوم تبلى السرائر، تقديره: إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر يرجعه. وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان، تقديره: وبعض الحلم عند الجهل إذعان للذلة إذعان.
المن ـ للذم داع ـ بالعطا، تقديره: المن للذم داع، المن بالعطا.
ومثل هذا يفعلون بالموصول وصلته وما تعلق بها، يقولون:
وكانوا فيه من الزاهدين، تقديره: وكانوا من الزاهدين فيه من الزاهدين. إني لكما لمن الناصحين، تقديره: إني لمن الناصحين لكما لمن الناصحين. وأنا على ذلك من الشاهدين، تقديره: وأنا من الشاهدين على ذلك من الشاهدين.
لا تظلموا سنورا فإنه لكم من الذين وفوْا، تقديره: لا تظلموا سنورا فإنه من
/ صفحه 387/
الذين وفوا لكم من الذين وفوا لكم. وأعرض ـ منهم ـ عمن هجاني، تقديره: وأعرض عمن هجاني منهم عمن هجاني. فإنك ـ مما أحدثت ـ بالمجرب، تقديره: فإنك بالمجرب مما أحدثت بالمجرب.
¥