لاحظ الدارسون أن العرب استخدموا قبل الإسلام نوعين من الخط، الأول: المسند، وهو القديم الواسع الإنتشار في جنوب الجزيرة العربية وبعض أنحائها الشمالية، وكان قد زال من الإستخدام في الفترة القريبة من ظهور الأسلام.
الثاني: الخط الذي كان معروفا في الحجاز والمناطق الواقعة في شمال الجزيرة العربية وشمالها الشرقي، وهو الخط الذي استعمل في تدوين القرآن الكريم، وفي شؤون الدولة الإسلامية بعد ذلك، والخط العربي المستعمل في زماننا هو امتداد لذلك الخط.
والحديث عن أصل الكتابة العربية التي نستعملها اليوم يتداخل عند بعض الدارسين بالحديث عن الخط العربي الجنوبي المعروف في المصادر العربية القديمة بالمسند، ولذلك فان من المفيد للقارئ إعطاء فكرة عن المسند، قبل عرض ما قاله الباحثون عن أصل الكتابة العربية.
المطلب الأول: الخط العربي القديم (المُسْنَد):
عرف المؤرخون واللغويون القدماء كلمة (المسند)، وكان معناها واضحا لديهم على نحو محدد، قال ابن منظور: (والمسند خط لحمير مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم) (). وقال ابن خلدون: (المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مصر) (). وأشار بعض المؤرخين المتقدمين الى أن المسند قد زال من الإستعمال قبل الإسلام (). وهو أمر أكده الدارسون المحدثون (). إلا ان فرعا من المسند لا يزال مستخدما، وهو الكتابة الحبشية.
وفي تسمية هذا الخط بالمسند أقوال، فقديما قال القلقشندي: (سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه الى هود عليه السلام) (). وحديثا قال اسرائيل ولفنسون: (والخط المسند يميل الى رسم الحروف رسما دقيقا مستقيما على هيئة الأعمدة، فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند على أعمدة ... وقد تنبه علماء المسلمين الى شكل هذه الكتابات وأطلقوا عليها لفظ المسند، لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة) ().
ويرفض الدكتور جواد علي تفسير ولفنسون هذا، ويقول بأنه تفسير أوحاه الخيال لأن كلمة (مسند) في العربية الجنوبية تعني الكتابة مطلقا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش .. فكلمة مسند تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن، ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير، أو غير حمير ... ) ().
والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أقدم الأقلام التي عرفت في شبه جزيرة العرب حتى الآن، ويبدو أنه كان معروفا في كل شبه جزيرة العرب قبل الأسلام، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي قبل ظهور أقلام أخرى ولدت على ما يظن بعد الميلاد، ومن ثم سماه بعض المحدثين بالقلم العربي الأول، أو القلم العربي القديم ()، وتسمية (المسند) بخط حمير لا تدل إلا على انهم آخر من كتب به، فقد سبقهم الى استعماله في اليمن المعينيون ثم السبئيون ()، كما استعمله أقوام عربية أخرى سكنت في أنحاء شبه الجزيرة الشمالية، وتركت نقوشا كثيرة مكتوبة بخط متحدر من المسند، وأقدم هذه النقوش هو اشتهر بين العلماء باسم النقوش الثمودية واللحيانية والصفوية، نسبة الى قبائل ثمود ولحيان وهي قبائل عربية قديمة استوطنت شمالي الجزيرة العربية، أما الصفوية باسمها مأخوذ من جبل الصفاة الموجودة في بادية الشام، حيث عثر على تلك النقوش في المنطقة القريبة منه ().
ويتميز المسند بالخصائص الاتية (): (تنظر صورة المسند في الشكل رقم 1)
(1) تتكون أبجدية المسند الاصل من 29 حرفا، كالابجدية العربية الشمالية، مع زيادة حرف واحد ينطق بين السين والشين.
(2) المسند خال من أية علامة للحركات أو حروف المد.
(3) تكتب حروف المسند منفصلة، ويفصل بين الكلمة والاخرى بخط عمودي، ويندر وجود الفاصل في النقوش الشمالية المتحدرة عن المسند.
(4) وتبدأ الكتابة بالمسند من اليمين في العادة، وتنتهي في اليسار، وقد يكتب النقوش بشكل متصل من اليمين الى اليسار، ثم من اليسار الى اليمين، وهكذا.
(5) يكتب الحرف المشدد مرتين غالبا.
وتسائل الباحثون عن أصل المسند، وعن علاقته بالخطوط السائدة قديما شرقي في البحر المتوسط، وشمالي الجزيرة العربية، التي يسميها كثير من الدارسين بالخطوط السامية. ويستخلص من حديثهم عن موضوع أربعة أقوال في أصل المسند، هي ():
¥