اذا تجاوزنا المصادر الحديثة التي رددت الروايات القديمة فاننا نجد أنظار أكثر الدارسين متجهة الى قبول النظرية القائلة بأن الخط العربي منحدر عن الخط النبطي، وقلة منهم تأخذ برأي ابن خلدون وتحاول أن تؤكده بأدلة جديدة. ونتوقف عند رأي هؤلاء القلة أولا ثم نعرض رأي الأكثرية بعد ذلك.
القول بأن المسند أصل الخط العربي
أخذ عدد من الرواد الأوائل المحدثين من الباحثين في تاريخ الخط العربي بالفكرة القديمة القائلة بأن المسند أصل الخط العربي، منهم محمد طاهر الكردي ()، وحفني ناصف ()، وبعد أن اتسعت دراسة النقوش القديمة تبنى جمهور الباحثين النظرية بتحدر الكتابة العربية عن الخط النبطي، الآرامي الأصل.
ويبدو أن العاطفة المعتملة في صدور بعض الباحثين تدفعهم بين الحين والاخر الى تبني نظرية المسند، فالأستاذ أحمد حسين شرف الدين يلاحظ أن خاصية اتصال الحروف في الكتابة النبطية، وانفصالها في المسند (جعل الباحثين في حقل الأبجديات السامية يصدرون احكاما على أن أبجديتنا العربية التي نكتب بها الآن انما هي أبجدية آرامية اقتبسها العرب الأقدمون بواسطة الأنباط، وأنها لا تمت بصلة الى أبجدية العرب الأصلية التي هي المسند ... ) (). ثم يقول: (وفي رأينا أن هذا الحكم فيه غاية الجور والتعسف)، وأن الكتابة النبطية في رأيه طورت المسند وادخلت عليه ظاهرة اتصال الحروف، فهي حلقة الأتصال بين كتابتنا العربية والمسند حسب رأيه ().
وأدخل بعض الباحثين عنصرا جديدا في أصل الكتابة العربية، وهو كتابة الحضر التي تبدو عليها مسحة آرامية ظاهرة، وجعلها أحد أصول الكتابة العربية، في فكرة تتلخص بقوله: (إن الكتابة العربية نشأت بتأثير من الكتابات السابقة في المنطقة، حضرية ونبطية ومسند، وكتابات أخرى لها حضور بشكل أو أخر في الكتابة الجديدة التي تركزت في الأنبار والحيرة، ثم انتقلت الى الحجاز .. ) ().
إن البحث في الخطوط القديمة وتحديد مسارات تطورها يجب أن يعتمد قبل كل شيء على الوثائق الخطية الأصلية، والمتمثلة بالنقوش الحجرية بالنسبة لتأريخ الكتابة العربية قبل الأسلام، وقد أظهرت دراسة تلك النقوش أن المسند لا يشكل حلقة مباشرة من حلقات تطور الخط العربي الشمالي. وقد رفض عدد من الباحثين، الذين درسوا النقوش العربية القديمة وقاموا بتحليل حروفها، النظرية القائلة بأن المسند هو أصل خطنا الذي نكتب به الآن (). وقرروا أن كتابتنا ترجع الى خط الأنباط المشتق من الخط الآرامي.
الأصل النبطي للخط العربي:
النبط في أصل اللغة الماء الذي ينبط من قعر البئر اذا حفرت، واستنبط الماء استخرجه، وأطلقت كلمة النبط والأنباط على جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق، وانما سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين، وفي الشام أيضا أنباط ()، وهؤلاء بقايا شعوب قديمة كانت تغلب على لغتهم العجمة، فاذا نطقوا بالعربية ظهر على ألسنتهم الفساد ().
والأنباط الذين يذكر الباحثون المحدثون أن خطهم هو أصل الخط العربي ليسوا النبط الذين تذكرهم المصادر العربية القديمة، لأن هؤلاء كانوا من الأقوام النازلة في العراق والشام وقت الفتح الأسلامي، أما أولئك فانهم عاشوا في بادية الشام الجنوبية والمناطق المحاذية لشمالي الجزيرة العربية، قبل الأسلام بقرون كثيرة، وجاءت معظم المعلومات عنهم من خلال الآثار الباقية في مدنهم، التي كان أشهرها بصرى وسد (البتراء) والحجر ()، وما عثر عليه من كتابات على الصخور في تلك الأنحاء.
وكان الأنباط قد كونوا دولة، وأول ملك نبطي يعرفه التاريخ هو (حارثة الأول) الذي حكم في حدود سنة (169 ق. م)، ثم تعاقب ملوك الأنباط حتى كان آخرهم (رب إيل الثاني)، الذي استولى الرومان في عهده على عاصمة ملكهم سلع (البتراء) سنة106ب. م، وزال بذلك الكيان السياسي للأنباط، لكن دورهم الحضاري امتد بعد ذلك عدة قرون في ظل الأحتلال الروماني لبلاد الشام ().
ويذهب معظم الباحثين الى أن الأنباط قبائل عربية الأصل، استوطنت في أنحاء الجزيرة العربية الشمالية وسرعان ما استقروا وتحضروا، وكونوا دولتهم التي كانت تمر من خلالها طرق التجارة الرئيسية، ولكنهم استخدموا الكتابة الآرامية التي كانت سائدة في الشام في عصر بزوغ دولة الأنباط ().
¥