وكان استخدام الأنباط للكتابة الآرامية بداية لنشوء الخط العربي الشمالي، فعلى أيديهم تطورت أشكال الحروف الآرامية، وصار لهم خط قديم تبدو عليه ملامح الأصل على نحو واضح، وخط متأخر امتاز بميله الى ربط حروفه بعضها ببعض، حتى اكتسب شكلا يمكن لقراء القلم العربي الشمالي أن يتعرفوا عليه بسهولة (). (ينظر صورة الخط النبطي في الشكل رقم 2).
وعثر الباحثون على كثير من النقوش النبطية، وقاموا بدراستها وتحليليها، والذي يهمنا التعرف عليه هنا هو النقوش النبطية المتأخرة التي تظهر فيها ملامح التطور نحو الخط العربي بشكل واضح، ومن أشهرها نقش النمارة. ومن النقوش العربية القديمة التي يظهر فيها الخط العربي وقد تكاملت خصائصه، وتخلص من ملامح أصله النبطي- الآرامي نقش جبل أسيس ونقش حران، ويمكن أن نضم الى هذه المجموعة أقدم نقش اسلامي مؤرخ، وهو المعروف بنقش القاهرة. ومن خلال دراسة هذه النقوش يمكن للقارئ أن يتعرف على جانب من أدلة الباحثين المحدثين التي قادتهم الى القول بأن الخط العربي مشتق من الخط النبطي.
1 - نقش النمّارة:
عثر على هذا النقش المستشرقان دوسو وماكلر سنة (1901م) على بعد كيلومتر واحد من النمارة، القائمة على أنقاض قصر روماني شرقي جبل الدروز، وهو شاهد قبر ملك عربي اسمه امرؤ القيس بن عمرو، المتوفى سنة328م. وقد عرف هذا النقش بنقش النمارة نسبة الى أسم الموضع الذي عثر على النقش بالقرب منه، (انظر الشكل رقم 3).
وهذه كلمات النقش مرسومة بحروف كتابتنا العربية: على نحو ما قرأها الذين درسوا هذا النقش، علما أن هناك اختلافا بينهم في قراءة بعض الكلمات أو تفسير معناها ():
1 - في نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج.
2 - وملك الأسرين ونزرو وملوكهم وهرب محجو عكدي وجأ
3 - بزجي في حجج نجرن مدينت شمر وملك معدو ونزل بنيه
4 - الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه
5 - عكدي هلك سنت 23 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده
إن الاختلاف في قراءة بعض الكلمات في النقش مثل (محجو) في السطر الثاني التي قرئت (مذ حجو)، و (نزل) في السطر الثالث التي قرئت ايضا (بين) أو (نيل) وغيرها. وكذا الأختلاف في تفسير معاني بعض الكلمات لا يخفي السمة البارزة فيه، وهي كونه مكتوبا بلغة عربية واضحة، لاسيما اذا لاحظنا أن من تقاليد الكتابة آنذاك عدم إثبات الألف في وسط الكلمات، مثل التج: التاج، ونجرن: نجران، وكذلك زيادة الواو في آخر أسماء الأعلام مثل عمرو: عمر، ونزرو: نزار، ولا يمنع ذلك من وجود كلمات نبطية ذات صبغة آرامية مدرجة في النص لكونه عثر عليه في منطقة لا تخلو من مؤثرات لغوية غير عربية.
إن لهذا النقش أهمية تاريخية ولغوية تتمثل بقدمه، فهو مؤرخ بسنة 223 من تاريخ بصرى الذي يبدأ سنة 105م، السنة التي سقطت فيها مدينة بصرى على يد الرومان، الموافق لسنة 328 من التاريخ الميلادي ()، وتتمثل بشكله الكتابي الذي يعتبر حلقة الأتصال أو نقطة التحول من الخط النبطي ذي الملامح الآرامية الى الخط العربي الذي انفصل عن أصله وتميز بخصائص جديدة جعلت منه خطا مستقلا، صار بعد ذلك كتابة عالمية، بعد أن كتب به القرآن الكريم واتخذته الدولة العربية الأسلامية خطا رسميا لها.
2 - نقش جبل أسيس
عثرت على هذا النقش بعثة ألمانية للتحري عن الآثار في سوريا في حزيران سنة 1965م، في منطقة تبعد 105 كيلومترات جنوب شرقي دمشق عند جبل أسيس. ويعد هذا النقش آخر نقش عربي جاهلي اكتشافا، فيما نعلم، ولا يزال هذا النقش غير معروف لدى كثير من الباحثين في تاريخ الكتابة العربية (). وهذا نص كلماته بحروف كتابتنا التي نستخدمها اليوم (انظر الشكل رقم 4):
1. ابراهيم بن مغيرة الأوسي
2. أرسلني الحرث الملك على
3. سليمن مسلحة سنت
4. 423
وسنة 423 بتاريخ بصرى تقابل سنة 528م، ويبدو أن الحارث المذكور في النص هو الحارث بن جبلة الذي انتصر على المنذر الثالث اللخمي في عام 528م (). وأن ابراهيم بن مغيرة الأوسي هو احد أتباع الملك المحاربين، فالمسلحة تعني (القوم الذين يحفظون الثغور من العدو، وسموا مسلحة لأنهم يكونون ذوي سلاح، أو لأنهم يسكنون المسلحة، وهي كالثغر والمرقب يكون فيه أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غفلة، فاذا راوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له) ().
¥