وإن كنت تعجب من ذكره لهذا الحديث، فاعجب أيضا لعدم ذكره لحديث هو أشهر جدا مما ذكره؛ لأنه في صحيح البخاري، ولأن العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة ذكروه واحتجوا به، وهو حديث أبي ذر الغفاري لما عير رجلا بأمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية ... إلخ))
وهذا الإغفال للحديث المشهور والاستدلال بحديث باطل مهجور من أقوى الأدلة على أنه لم يلتزم بمنهجه الذي ذكره في مقدمة كتابه في الاحتجاج بالحديث.
ثم إنه يخلط كما يخلط كثيرون – عند الاحتجاج بالحديث – فيذكرون ما ورد في كتب الحديث وإن لم يكن من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال في مبحث (الثلاث سنوات برقم 134 أ): ((ورد حديثان عن النبي جاء فيهما (( ... وأتى بالألف دينار)) و ((ثم قرأ العشر آيات)).
فهذان الحديثان وردا في صحيح البخاري، وهناك حديثان آخران وردا في صحيح مسلم، ((فعمل هذه الثلاث درجات))، و ((رمل الثلاثة أطواف))، وجميع هذه النصوص ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل من كلام غيره، إلا حديث (الألف دينار) ففيه أوجه، وكلام العدناني واضح في أنه يظن أنهما من كلام النبي صلى الله عليه وسلم،
وهذا يدل على أنه لم يرجع إلى الكتب التي خرجت هذه الأحاديث، ولا علم له بتمامها ولا بمن رواها من أئمة الحديث. وواضح أيضا أنه إنما اقتبس بعض مباحث من سبقه دون عزو مثل مجمع القاهرة أو من نحا نحوه كعباس حسن والسامرائي، ومن قبلهم الشيخ النجار، ولا أعلم بالضبط من أين نقل، فليراجع.
قال العدناني في مسألة (أبيض من اللبن برقم 120):
((حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبدا)) رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر))).
قلت: أخيرا وجدت حديثا واحدا خرجه المؤلف.
قال الحافظ في فتح الباري: يحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، فقد وقع في رواية أبي ذر عند مسلم بلفظ أشد بياضا من اللبن، وكذا لابن مسعود عند أحمد، وكذا لأبي أمامة عند ابن أبي عاصم.
وقال النووي في شرح مسلم: والنحويون يقولون أن فعل التعجب الذي يقال فيه هو أفعل من كذا إنما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف فإن زاد لم يتعجب من فاعله وإنما يتعجب من مصدره، فلا يقال: ما أبيض زيداً ولا زيد أبيض من عمرو، وإنما يقال: ما أشد بياضه، وهو أشد بياضاً من كذا. وقد جاء في الشعر أشياء من هذا الذي أنكروه فعدوه شاذاً لا يقاس عليه، وهذا الحديث يدل على صحته وهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال. ومنها قول عمر رضي الله عنه: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
قال العدناني في مسألة (حوائج برقم 247):
((ومما يؤيد صحة (الحوائج) ما يأتي:
روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله عبادا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة. وفي الحديث أيضا: اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه. وفيه أيضا: استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان)).
الحديث الأول فيه عبد الرحمن بن أيوب وهو ضعيف.
الحديث الثاني طرقه جميعها ضعيفة، وضعفه كثير من العلماء، وحكم ابن الجوزي بوضعه وحسنه السيوطي، وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه باطل.
الحديث الأخير في أسانيده ضعف وضعه جمع من الأئمة، وحسنه الألباني بشواهده،
وعلى كل فلا يمكن أن ينطبق على هذه الأحاديث منهج العدناني الذي ذكره في المقدمة.
ـ[أبو مالك العوضي]ــــــــ[18 - 12 - 05, 11:47 ص]ـ
الفرق بين التأصيل والتفريع
لعلكم لاحظتم أن انتقاداتي السابقة للعدناني كانت تدور في أغلبها على منهجه في التأصيل، أي في القواعد التي يحكم على أساسها بأن هذا الكلام خطأ أو صواب.
وهذا هو الأهم في نظري من النقاش في الفروع، أي في أن حكمه على الكلمة أهو حكم سليم أو خطأ.
لأننا قد نتفق على الأصل ونختلف في الفرع كل حسب فهمه في تطبيق هذا الأصل.
ولكن الاختلاف في الأصل هو المهم لأن الأصل ينبني عليه ما لا يحصى من الفروع.
وعدم الاهتمام بمعرفة التأصيل في علم من العلوم يوقع من يتكلم في هذا العلم في تناقضات لا حصر لها
لأنه قد يحتج بشيء في موضع ويخالف قاعدته في موضع آخر لأنه لم يؤصلها تأصيلا واضحا.
وأضرب لذلك مثالا:
عندما نختلف في صحة لفظة من الألفاظ، فيقول بعضنا إنها خطأ ويقول الآخر إنها صواب ويحتج الذي يجعلها صوابا ببيت من الشعر لامرئ القيس مثلا، فيرد عليه الآخر بأن قول امرئ القيس ليس بحجة.
فهذا الأخير قد رد الفرع بقاعدة تاصيلية وهي أن قول امرئ القيس ليس بحجة، وهذه القاعدة خطيرة جدا، لأنه لو طبقها على كل فروعها لرد كل أشعار امرئ القيس التي يحتج بها العلماء كثيرا في إثبات الألفاظ اللغوية.
لكن لو قال المانع من صحة اللفظة: إن قول امرئ القيس يحتمل شيئا آخر أو فيه وجه آخر لكان الأمر خفيفا حينئذ لأنه اختلاف فرعي لا يرجع بالإبطال على الأصول المتفق عليها.
¥