واستدل الفقهاء بهذا الثناء الذي انحصر بهذه المزايا الثلاث على الوجوب (فمدحهم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مدحهم بالايمان بالله تعالى، وهذا يدل على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بذكر الآية دليلاً دون تفصيل، لاقتران الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى، ووقوعهما في مستواه، وتخصيص الثناء والمدح بالخيرية بهذه الصفات الثلاث.
الآية الثالثة: (لَيسُوا سَوَاءً مِن أهلِ الكِتابِ أُمّةٌ قائمةٌ يَتلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ الليلِ وَهم يَسجُدُونَ * يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وَيُسارِعُونَ في الخَيراتِ وأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحينَ).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات القيام بالواجبات، ومن علامات الصلاح، فلم يشهد الله تعالى لهم بالصلاح بمجرد الايمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومفهوم الآية هو انّ الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر لايعدّون من الصالحين، ولولا الوجوب لما نفى صفة الصلاح عنهم.
الآية الرابعة: (والمؤمِنُونَ والمؤمِناتُ بَعضُهُم أولياءُ بعضٍ يأمرُونَ بالمعرُوفِ وَينهوَن عَنِ المُنكَرِ ويُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتَونَ الزَّكاةَ ويُطيعُونَ اللهَ وَرَسولَهُ أولئِكَ سَيرحمُهُمُ اللهُ إنَّ اللهَ عَزيزٌ حكيمٌ).
جعل الله تعالى الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الاوصاف الخاصة بالمؤمنين، وهما من شؤون ولاية بعض المؤمنين على بعض.
وعلى هذا فالذي يهجر الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون خارجاً عن (هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية).
واخراج التاركين للاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جماعة المؤمنين لا يصحّ ولا يستقيم إلاّ إذا كانا واجبين، وعليهما تترتب الرحمة.
ويؤيد ثبوت الوجوب انّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وردا في سياق الواجبات كاقامة الصلاة وايتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهما واجبان بدلالة وحدة السياق، وتكرّر اقترانهما مع الواجبات يفيد الاطمئنان بوجوبهما.
الآية الخامسة: (لَولا يَنهاهُمُ الرَّبَّانيُونَ والاَحبارُ عَن قَولِهِم الاِثمَ وأكلِهِمُ السُّحتَ لَبئسَ ما كَانُوا يَصنعُونَ).
ذمّ الله تعالى ووبَّخ بني اسرائيل لقولهم الاَثم وأكلهم السحت، وذمّ علماءهم لعدم قيامهم بنهيهم، فذمّ (هؤلاء بمثل اللفظة التي ذم بها اولئك، وفي هذه الآية دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه).
فالتوبيخ شامل لمرتكب المنكر والساكت عن النهي عنه، فقد وبَّخ الله تعالى (الربانيين والاحبار في سكوتهم عنهم، وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام والمعاصي، وهم عالمون بأنّها معاصٍ وذنوب).
فقد بين الله تعالى ان الربانيين والاَحبار أثموا بترك النهي عن المنكر والدلالة واضحة على وجوب الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو لم يكونا واجبين لما ترتب الاَثم على تركهما، ولما وبّخهم الله تعالى على سكوتهم؛ لاَنّ التوبيخ يستتبع العمل السيئ، وترك النهي عن المنكر هو أحد مصاديقه.
الآية السادسة: (لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن بَني إسرائيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوا وَّكَانُوا يَعتدُونَ * كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلَوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ).
لعن الله تعالى بني اسرائيل بعصيانهم واعتدائهم، ثمّ بيّن حالهم، فقال: (كَانُوا لا يَتَناهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعلُوهُ) أي لم يكن ينهى بعضهم بعضاً، ولا ينتهون أي لا يكفّون عمّا نهوا عنه.
وقد علّل الله تعالى استحقاقهم اللعنة (بتركهم النهي عن المنكر).
فلو لم يكن النهي عن المنكر واجباً لما استحقوا اللعنة بتركهم إيّاه؛ لاَنّ اللعنة تختص بترك الواجب.
ويؤيد الوجوب ما روي عن ابن عباس في تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للآية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق اطراً أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم».مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 231
الآية السابعة: (يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم نَاراً وقُودُها النَّاسُ والحِجارةُ ... )
وقاية الاَهل من النار تتم (بدعائهم إلى الطاعة وتعليمهم الفرائض، ونهيهم عن القبائح، وحثّهم على أفعال الخير).مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 318
والوقاية هي الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما روي عن الاِمام الصادق عليه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية ... جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي، كُلّفت أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك».الكافي 5: 62
¥