والثاني: يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا لكن لا على جهة الالتزام لا بنذر ولا غيره وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال فيغتنم نشاطه في حالة خاصة غير ناظر فيها فيما يأتي ويكون جاريا فيه على أصل رفع الحرج حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت:
[كان رسول الله يصوم حتى نقول: لا يفطر ويفطر حتى نقول: لا يصوم وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان] الحديث
فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من الحقوق المتعلقة أو القوة في الأعمال وكذلك قول عبد الله بن عمرو في صيام يوم وإفطار يومين ليتني طوقت ذلك إنما يريد المداومة لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر ولا يعترض هذا المأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم:
[أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل] وإن كان عمله دائما لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام
وأما ما نقل عنهم أدلة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل وصيام الدهر ونحوه فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور وهو أن لا يلتزم ذلك وإنما يدخل في العمل ما لا يغتنم نشاطه فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا وإذا لم يخل بما هو أولى عمل كذلك فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا وفي كل حالة هو في فسحه الترك لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام وهذا صحيح ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة وهو معنى قول صلى الله عليه وسلم:
[وجعلت قرة عيني في الصلاة] فلذلك قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وامتثل أمر ربه في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا} الآية
والثالث: أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم أو في قوة عزائمهم أو في قوة يقينهم أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين لأن أحدهما أقوى جسما أو أقوى عزيمة أو يقينا بالموعود والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها وتقوى مع ضعفها
فنحن نقول: كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقا عليهم وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع وهو الذي دلت عليه الأدلة دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم إلا على القليل النادر منهم
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
[إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني] يريد صلى الله عليه وسلم أنه لا يشق عليه الوصال ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق فعلى هذا: من رزق أنموذجا مما أعطيه صلى الله عليه وسلم فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج
وأما رده صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ولذلك وقع له ما كان متوقعا حتى قال: ليتني قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق.
ثانيا: قرر شيخ الإسلام أن الأفضل هو اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عبادته وتطوعه وصلاته وقيامه وصيامه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
¥