فهذه الآية نزلت في الجهاد , و الحض على فتح بلاد الكفار , ولا دليل في الآية على ما ينشدونه.
المطلب الثاني: شبهات تعتمد على العادات والتقاليد والتراث:
إن العادات تتبع الشرع , و لا يتبع الشرع العادات , فأي شيءٍ من العادات أو التقاليد أو التراث خالفت الشرع فلا يجوز الأخذ بها , وإلا ضاهينا المشركين فيما حكاه الله عنهم " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ".
ومن هذه الشبهات:
? اعتمادهم على التاريخ , حيث أن كتب التاريخ أو بعضها وخاصة المعاصرة منها ذكرت هذا المكان على أنه مسجد تقام فيه الصلوات منذ مئات السنين , وقد رحل إليه كثيرٌ من العلماء وأقاموا فيه دون أن يذكروا حرمة الصلاة فيه لوجود القبور ... الخ.
أقول: العبرة بالكتاب والسنة وعمل سلف الأمة , وأي شيءٍ يعارض هذه الأصول فلا عبرة به , فأغلب كتب التاريخ ناقلة ومجمعة وليست ناقحة ومحققة , و من الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب " الأنس الجليل في أخبار القدس والخليل " لمجد الدين الحنبلي , فكما ذكر المؤلف فان كتابه عبارة عن أخبار فيه الصحيح و السقيم , وقد تكلم عن المقبرة الإبراهيمية مستدلاً بالأحاديث الضعيفة.
ومما ينتقد عليه ما نقله عن كعب الأحبار بدون مصدر ولا إسناد , حيث رُوي عن كعب أنه قال:
" أكثروا من الزيارة إلى قبر رسول الله قبل أن تمنعوا ذلك ... فمن منع ذلك فليجعل رحلته وإتيانه إلى قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ... وليكثر من الدعاء عنده , فإن الدعاء عند قبر سيدنا إبراهيم الخليل مستجاب , ولم يتوسل به أحد إلى الله في شيء إلا أجابه , ولم يبرح من مكانه حتى يرى الإجابة في ذلك عاجلاً أو آجلاً. "
قلت [المؤلف]: وهذا مما لا شك فيه , فإني جربته في أمر وقع لي من أمور الدنيا فكنت أتوقع الهلاك منه فتوجهت من بيت المقدس إلى بلد سيدنا الخليل عليه السلام في ضرورة اقتضت سفري , فلما أن دخلت مسجده ودخلت إلى الضريح المشهور بأنه قبر إبراهيم الخليل , تعلقت بأستاره ودعوت الله تعالى فيما كنت أرجوه , فما كان بأسرع من أن فرّج الله عني كربتي ولطف بي وأزال عني كلما أزعجني. (29)
أقول: إن هذا الكلام يدل على مدى التأثر بالصوفية والمحدثات الدخيلة , ويدل على عدم معرفة الصحيح والضعيف من الأحاديث , فقد اعتمد في كلامه على رواية مكذوبة عن كعب الأحبار وبنا على ذلك عقيدة فطبقها خير تطبيق. فإذا كان الدعاء مستجاب عند قبر إبراهيم عليه السلام , فيكون
الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى وأحرى , وهل فعل ذلك الصحابة؟! ولماذا لم يذهبوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما أجدبوا زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , ـ سبحانك هذا بهتان عظيم ـ. فلا يجوز الذهاب إلى قبور الأنبياء للدعاء عندها ,حتى وإن كان لا يدعو الأنبياء بل يدعو الله , إلا أن ذلك لا يجوز , لأنه اتخذ صاحب هذا القبر واسطة بينه وبين الله عز وجل. وأما أنه جرّب ذلك فتحقق له مراده: فالله أعلم بصدقه , ولعلها تكون فتنة له ولغيره واستدراج من الله كما جاء في أمر الدجّال وما يكون معه من الخوارق , ليعلم الله المؤمن من المنافق.
و مما قاله أيضاً ـ وفيه تلبيس على الناس ـ:
وقد رُوي عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: إن آدم عليه السلام رأسه عند الصخرة الشريفة , ورجلاه عند مسجد إبراهيم عليه السلام " قال المؤلف: فسماه مسجداً [وهذه الرواية ضعيفة].
ثم قال [و بئس ما قال]: وإذا كان مسجداً جاز الدخول إليه , وسماه السبكي بالحرم (30) , وعمل الناس اليوم على دخوله , وزيارتهم للقبور الشريفة والوقوف عند الإشارات التي عليها , وصلاة الجماعة و
الجماعات هناك , فإنه بني به محراب شريف ووضع إلى جانبه منبر , وقد مضى على ذلك أزمنه
متطاولة والعلماء وأئمة الإسلام مطلعون على ذلك [فيه مبالغة]. وقد أقر الخلفاء وملوك الإسلام ولم ينكره منكر فصار كالإجماع.
وإذا تقرر هذا ثبتت له أحكام المساجد من جواز الاعتكاف فيه وتحريم المكث على الحائض والجنب فيه وفعل التحية , ولا يقال أنه مقبرة , فإن الأنبياء الذين فيه صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أحياء في قبورهم ,وأما النساء فعلى خلاف فيه. انتهى (31)
¥