هذه نبذة ميسرة عن الخبر والإنشاء والطلب.
وبعد هذا نأتي إلى التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً أو طلباً.
التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً: تأويل الأخبار: هو حقيقتها، ونفس وجودها.
فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه المقدسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدسة المتصفة بما لها من حقائق الأسماء والصفات.
وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد.
وتأويل قيام الساعة، وما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب، والنكاح، هو الحقائق الموجودة أنفسها [10].
وتأويل رؤيا يوسف -عليه السلام- هو وقوعها في الخارج، وتحققها، وهكذا ...
إلى غير ذلك من الأمثلة التي يصعب حصرها.
فهذا هو التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان خبراً.
التأويل بمعنى الحقيقة إذا كان طلباً: الطلب: إما أن يكون أمراً، وإما أن يكون نهياً؛ فالأمر: طلب الفعل، والنهي: طلب الكف.
فإذا كان الطلب أمراً فتأويله: هو نفس الفعل المأمور به، أي امتثاله، والعمل به.
وإذا كان الطلب نهياً فتأويله: هو نفس اجتناب المنهي عنه، أي تركه.
أمثلة لتأويل الأمر:
1 - قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه، وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) يتأول القرآن [11].
وتعني بذلك قوله -تعالى-: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] (النصر:3).
وتريد بذلك أنه يعمل بأوامر القرآن، ويفعل ما أمر به فيه؛ حيث أمر في آخر حياته أن يسبح بحمد ربه ويستغفره، فكان يتأول القرآن، أي يعمل به، ويطبقه؛ فنفس فعله هذا هو تأويل الأمر، وهو قوله -عز وجل-: [فَسَبِّحْ] و [اسْتَغْفِرْهُ].
2 - وعن سعيد بن جبير -ر حمه الله - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: [فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ] (البقرة: 115)) [12].
ومعنى قوله: (يتأول): أي يطبق ويمتثل.
3 - ومن الأمثلة على ذلك ما روي عن الثوري -ر حمه الله - أنه بلغه أن أم ولد الربيع ابن خثيم قالت: (كان الربيع إذا جاءه السائل يقول لي: يا فلانة أعطي السائل سُكَّراً؛ فإن الربيع يحب السُّكَّر).
قال سفيان: (يتأول قوله - عز وجل -: [لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران: 92)) [13].
أي يمتثل أمر الله - عز وجل - في الإنفاق مما يحبه الإنسان.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً مثل قوله - تعالى -: [وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ] (البقرة: 43).
فتأويل ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهكذا ...
فهذا - إذاً - هو تأويل الأمر بمعنى حقيقته.
أمثلة لتأويل النهي:
1 - قال الله - تعالى -: [وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى] (الإسراء: 32).
فتأويل ذلك البعد عن قربان الزنا.
2 - وقل مثل ذلك في قوله - عز وجل -: [وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ] (الأنعام: 151).
وهكذا ...
مثال يجمع بين تأويل الأمر والنهي والخبر: قال الله - تعالى - مخاطباً أم موسى -عليه السلام-: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] (القصص:7).
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أمرين، ونهيين، وخبرين؛ فالأمران في قوله -تعالى-: [أَرْضِعِيهِ]، وقوله: [فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ].
وتأويل الأمرين إرضاعها لموسى، وإلقاؤه في اليم.
والنهيان في قوله - تعالى -: [وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي].
وتأويلهما ترك الخوف، وترك الحزن.
وقد فعلت ما تستطيع وإن كان فؤادها قد أصبح فارغاً، وكادت أن تبدي به لولا أن ربط الله على قلبها.
والخبران في البشارتين في قوله - تعالى -: [إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ].
وتأويل هذين الخبرين وقوعهما في الخارج؛ حيث عاد موسى إلى أمه، وصار من المرسلين.
الفرق بين تأويل الخبر، وتأويل الطلب:
¥