رابعاً: حصل بين الزوجين بعد ذلك سوء تفاهم وترافعا إلى المحكمة الكبرى بمكة المكرمة، وأحيلت قضيتهما إلى الشيخ عبدالملك بن دهيش، فأصدر فيها صكين أحدهما برقم 136/ 9 وتاريخ 21 - 7 - 90هـ والثاني رقم 37/ 22 وتاريخ 11 - 9 - 90هـ، متضمنين الحكم باستمرار الزوجية في ما بينهما والمعاشرة بالمعروف ولم يتعرض لطلاق الثلاث ولا غيره.
خامساً: حصل بعد ذلك سوء تفاهم بينهما فنظر في قضيتهما مساعد رئيس المحكمة الكبرى في مكة المكرمة، فأصدر بينهما صكاً بتاريخ 15 - 6 - 91هـ يتضمن التفريق بينهما بناء على أن طلاق الثلاث نافذ، ولم يلتفت إلى كونهما استفتيا عنها وأُفتيا بأنها واحدة وعملا بالفتوى مدة من الزمن.
سادساً: رفع الحكم إلى هيئة التمييز في مكة فصدقته من دون أن تذكر شيئاً عن الفتوى المذكورة في الصك.
سابعاً: قام الزوج بالتظلم فكتب يتشكى واتصل بالشيخ عبدالعزيز بن باز، فكتب الشيخ إلى هيئة التمييز لعلها ترجع عن تصديق الحكم ولما لم يجد ذلك شيئاً، كتب عن ذلك لجلالة الملك - حفظه الله - فأمر جلالته بإحالتها إلى وزير العدل لإحالتها إلى الهيئة القضائية العليا.
ثامناً: بالرجوع إلى كلام أهل العلم في هذه المسألة وما ذكره الفقهاء رحمهم الله في أصول الفقه وفروعه، ظهر أن ليس لمساعد رئيس محكمة مكة أن يفعل ما فعله، لأن هذه قضية واحدة صدرت فيها فتوى شرعية من عالم مجتهد أهل للإفتاء، وقد بنى فتواه على نصوص شرعية وتبلغ بها المستفتيان بواسطة قاض شرعي والتزما بها وعملا بها مدة من الزمن، وحصل مرافعة بين الزوجين لدى قاض قبله فلم يتعرض لما تضمنته الفتوى أو يحد عنها بشيء. والمنصوص عليه في مثل هذا انه لا يحق للمستفتي ولا للمفتي ولا لغيرهما أن يسعى لإبطال فتوى بهذه المثابة وعلى هذا تضافرت نصوص العلماء رحمهم الله ونحن نذكر خلاصة لما نصوا عليه في كتبهم:
- قال شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد (35 ص 329): فالمفتي ونحوه إذا قالوا إنا قلنا الحق واحتجوا بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يخفي بل يظهر فإن ظهر رجع الجميع إليه وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا كالمسائل التي تقع ويتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد انه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حكماً وفي (ج 33 ص 133)، بل أجمع الأئمة الأربعة وأتباعهم وسائر الأئمة مثلهم على من قضى بأنه لا يقع الطلاق في مثل هذه الصورة لم يجز نقض حكمه، ومن أفتى به ممن هو من أهل الفتيا ساغ له ذلك ولم يجز الانكار عليه باتفاق الأئمة الأربعة ولا على من قلده.
وفي ص (134/ 23)، ولا يجوز باتفاق الأئمة الأربعة نقض حكمه إذا حكم ولا منعه من الحكم به ولا من الفتيا به ولا منع أحد من تقليده.
ومن قال إنه يسوغ المنع من ذلك، فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة، بل إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله فإن الله تعالى قال في كتابه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله «20») الأنفال.
- وفي مسودة ابن تيمية ص (519) فصل: إذا أفتى أحد المجتهدين بالحظر والآخر بالإباحة وتساوت فتواهما عند العامي، فإنه يكون مخيراً في الأخذ بأيهما شاء، فإذا اختار أحدهما تعيَّن القول الذي اختاره أو أباحه. ذكره القاضي في أسئلة المخالف بما يقضي أنه محل اتفاق ولم يمنعه.
- وقال الآمدي الشافعي في الأحكام (ج 4 ص 238) طبعة مؤسسة النور في الرياض المسألة الثامنة. إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها، اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره.
- وفي ص (309/ 2) من شرح مختصر ابن الحاجب المالكي للعضد على قول ابن الحاجب ولا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقاً. وفي حكم آخر المختار جوازه، فقال الشارح: أقول: إذا عمل العامي بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع عنه إلى غيره اتفاقاً.
- وقال ابن الهمام الحنفي في التحرير ص (551) طبعة الحلبي عام 1351هـ، مسألة: لا يرجع المقلد فيما قلد فيه أي عمل به اتفاقاً.
¥