ومستند هذا المسلك حديث زينب بنت أم سلمة، أنَّ أمها أم سلمة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت تقول: " أبى سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُدخلنَ عليهنَّ أحداً بتلك الرَّضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسالم خاصة فما هو داخل علينا أحد بهذه الرضاعة، ولا رائينا " رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وهو في "إرواء الغليل" (2152).
وقد أيّدوا قولهم بالخصوصية بأمور منها:
-العمل بحديث قصة سالم مخالف للقواعد؛
منها: قاعدة الرّضاع، فإنَّ الله ـ تعالى ـ قال: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ"وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" [البقرة: 233] فهذه أقصى مدة في الرضاع المعتبر شرعاً، المحتاج إليه عادة.
ومنها: قاعدة تحريم الاطّلاع على العورة، وثدي الحرّة عورة بالاتفاق.
-أحاديث توقيت الرضاع في الصغر كثيرة، وليس في رضاع الكبير إلا حديث قصة سالم.
-سائر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدا عائشة في شِقِّ المنع.
-القول بالخصوصية أحوط.
-رضاع الكبير لا ينبت لحماً، ولا ينشز عظماً، فلا يحصل به البعضية التي هي سبب التحريم.
-أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما دخل على عائشة وعندها رجل قاعد، اشتد ذلك عليه وغضب، فقالت: "إنه أخي من الرضاعة" فقال: "انظرن من إخوانكن، فإن الرضاعة من المجاعة"انظرن من إخوانكن، فإن الرضاعة من المجاعة".
وانظر في ذلك: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (4/ 188 ط: دار ابن كثير)، و"الروضة الندية" (2/ 331).
وقد أجاب ابن حزم عن دعوى الخصوصية كما جاء في "المحلى" (10/ 210ـ211) بقوله:
"فليعلم من تعلَّق بهذا أنه ظنٌّ ممَّن ظنَّ ذلك منهن ـ رضى الله عنهن ـ، وهكذا جاء في الحديث أنهن قلن: ما نرى هذا إلاَّ خاصاً لسالم، وما ندري لعله رخصة لسالم، فإذ هو ظن بلاشك فانَّ الظنَّ لا يعارض بالسنن، قال ـ تعالى ـ: (إنَّ الظنَّ لا يغنى من الحق شيئاً)، وشتان بين احتجاج أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ باختيارها، وبين احتجاج عائشة ـ رضى الله عنها ـ بالسنة الثابتة، وقولها لها: أما لك في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة حسنة؟ وسكوت أم سلمة ينبئ برجوعها إلى الحق عن احتياطها" ا. هـ
وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 70):
" ... ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التبني الذي أدى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب ومنعوا من التبني شق ذلك على سهلة، فوقع الترخيص لها في ذلك؛ لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر؛ لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتجاج بها، فتُنفى الخصوصية، ويثبت مذهب المخالف" ا. هـ
المسلك الثاني: القول بأنَّ حديث قصة سالم منسوخ بأحاديث الرّضاع في الحولين.
وهذا مسلك أضعف من سابقه؛ لأنَّ دعوى النسخ لا يمكن إثباتها إلا إذا:
1 - تَعَذَّرَ الجمع بين الدليلين من كل وجه، والجمع ممكن كما سيأتي بيانه.
2 - عُلِمَ التاريخ بمعرفة النص المتقدم من المتأخّر، وهذا ـ بحد ذاته ـ متعذّر في هذه المسألة. ولو أنَّ القائلين برضاع الكبير قلبوا دعوى النسخ على المانعين منه، وادّعوْا نسخ أحاديث الرضاعة في الحولين والصغر بحديث سهلة ـ قصة سالم ـ لكانت نظير دعوى المانعين من رضاع الكبير؛لاستواء كلتا الدعويين بفقد الحُجَّة.
هذا من الناحية الأصولية.
وأما من الناحية الفقهية: فلو كانت دعوى النسخ صحيحة معلومة لدى نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما احتجت واحدة منهن على عائشة يتخصيص الرضاع بسالم وعدم إلحاق غيره به، وكنَّ قد احتججن بالنسخ لأنه أقوى من التخصيص فيما لو ثبت.
¥