وكيف يخفى على عائشة أنّ حديث قصة سالم منسوخ وهي التي لها مزيد اعتناء في هذه المسألة، وكانت تناظر أزواج النبي فيها، وتدعو إليها صويحباتها، بل وتأمر بنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال؟
وكيف يخفى عليها النسخ ـ لو صح وثبت ـ وهي إضافة لروايتها لحديث قصة سالم روت أحاديث الرضاعة في الصغر، ورأت إنكار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واشتداده وغضبه عندما رأى رجلاً قاعداً عندها، فقالت: إنه أخي من الرضاعة، فقال: " انظرن من إخوتكنَّ فإنَّ الرَّضاعة من المجاعة".
وعضّد بعضهم قضية النسخ بدعوى أنَّ قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، وأحاديث الحولين من رواية صغار الصحابة، فدلّ على تأخرها.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 69ـ70):
" ... وهو مستند ضعيف إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أن يكون ما رواه متقدماً، وأيضا ففي سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين؛ لقول امرأة أبي حذيفة في بعض طرقه حيث قال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " أرضعيه" قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "قد علمت أنَّه رجل كبير ". وفي رواية لمسلم قالت: "إنَّه ذو لحية "، قال:"أرضعيه ". وهذا يشعر بأنها كانت تعرف أنَّ الصغر معتبر في الرضاع المحرم." ا. هـ
أما القول الثالث:
فسلك أصحابه مسلك الجمع والتوفيق بين الأدلة المتعارضة، فقالوا: إنَّ حديث قصة سالم خاصّ، وأحاديث الرضاعة في الحولين عامة، والعام يحمل على الخاص فيخصص به، ولكنّه يخصص بمن عرض له من الحاجة إلى إرضاع الكبير ما عرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة؛ فإنَّ سالماً لماَّ كان لهما كالابن، وكان في البيت الذي هما فيه، وفي الاحتجاب مشقة عليهما، رخص ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرَّضاع على تلك الصفة، فتجتمع بذلك الأدلة، ويندفع التعسّف في إعمال دليل دون غيره، وهو الحق الذي ينبغي المصير إليه.
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (5/ 527):
"حديث سهلة ليس بمنسوخ، ولا مخصوص، ولا عام في حق كل أحد، وإنما هو رخصة للحاجة لمن لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ والأحاديث النافية للرضاع في الكبير إما مطلقة فتقيد بحديث سهلة، أو عامة في الأحوال، فتخصيص هذه الحال من عمومها. وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين، وقواعد الشرع تشهد له" ا. هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (34/ 60):
" ... وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى أنَّ إرضاع الكبير يحرم، واحتجوا بما في صحيح مسلم وغيره عن زينب بنت أم سلمة أنَّ أمَّ سلمة قالت لعائشة: إنَّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل عليَّ فقالت عائشة: ما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ قالت: إنَّ امرأة أبي حذيفة قالت: ... الحديث ... وهذا الحديث أخذت به عائشة وأبى غيرها من أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأخذن به؛ مع أن عائشة روت عنه قال: " الرضاعة من المجاعة " لكنَّها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعة أو تغذية؛ فمتى كان المقصود الثاني لم يحرم إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامة الناس، وأمَّا الأوَّل فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجِّه." ا. هـ
قال الصنعاني في "سبل السلام" (3/ 1533 ط: دار الفكر) معلّقاً على كلام شيخ الإسلام السابق:
"فإنّه جمعٌ بين الأحاديث حسن، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص، ولا نسخ، ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلّت له الأحاديث" ا. هـ
مسألة:
هل رضاع الكبير في مذهب أهل العلم القائلين به يحرّم المُرضِع ويثبت جميع أحكام الرضاع أم أنّه يفيد مجرد رفع الاحتجاب وجواز الخلوة؟
¥