حكى الخطابي في مسألة شراب البتع ورد حديث في البتع عند البخاري ومسلم، انظر جامع العلوم والحكم، ص 366.عن بعض الناس "أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.
وقال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.
وقال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها.
قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.
قال الشاطبي: والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، أو يجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ
(الجزء رقم: 47، الصفحة رقم: 231)
القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجر على رأي واحد. . . وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة الموافقات، ج 4 ص 141، 142 ..
والخلاف على هذا النحو يؤدي إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها.
وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع للهوى وفي ذلك مخالفة للشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء. فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع. ولذلك سميت البدع ضلالات.
وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع. وما ذكر منها في كتب الفقهاء إنما للرد عليها وبيان فسادها مثلما فعلوا مع
(الجزء رقم: 47، الصفحة رقم: 232)
أقوال اليهود والنصارى الموافقات، ج 4 ص 222 ..
ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى. وكذلك الحاكم ولا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر، والحاكم ملزم، والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، فلأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل.
وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة. والتمسك بالشبه طلبا للترخص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره.
قال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه تبصرة الحكام، ج 1 ص 52 ..
وقال القرافي: لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشدد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 52 ..
(الجزء رقم: 47، الصفحة رقم: 233)
ويشمل الذم من ينتقل من قول إلى قول لمجرد عادة أو اتباع هوى انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 214 ..
ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول من يقول بالتخيير بين الأقوال، فهي مقالة ضعيفة لا يعتد بها تبصرة الحكام ج 1 ص 48.؛ لأن السماح الجاري بالحنيفية السمحة مقيد بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها.
¥