تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلا بد أن نشير في البداية إلا مكانة البخاري ومسلم عند علماء الأمة. أما البخاري فلا خلاف في أنه أعلم بالحديث والرجال وأفقه من مسلم. وكلاهما من أئمة هذا الشأن. وأعلم هذه الأمة بعلم العلل هم ستة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، والبخاري، والدراقطني. والأخير هو أعلم من البخاري ومسلم بهذا الشأن. ومع ذلك فإن كتابه الذي كتبه في الانتقاد عليهما معظمه في تبين العلل فقط دون تضعيف الأحاديث. العلة تكون في الإسناد غالباً وليس في المتن. ثم إنها غالباً –في الصحيحين– تكون غير قادحة. فالضعيف من أحاديثهما ليس إلا قليل للغاية. وقد تكفل ابن حجر في فتح الباري في الإجابة عن معظم ما انتقده الدراقطني للبخاري. وبقي صحيح مسلم لم يعتن به أحد عناية كافية. وشرح النووي له مختصر جداً غير كافٍ وليس فيه ما يشف الغليل.

وشرط البخاري أشد من شرط مسلم، وهو أعلم منه بالعلل وبالفقه. وهو لا يكتف بمجرد المعاصرة بين الراويين غير المدلسين في الحديث المعنعن ليحكم عليه بالاتصال، بل لا بد من ثبوت التحديث بين هذين ولو مرة واحدة. بخلاف مسلم الذي يكتفي بالمعاصرة. ولذلك كان سبب أغلب الأحاديث الضعيفة عند مسلم، هو انقطاع في السند. وما تبقى هو نتيجة ضعفٍ من الراوي. وهذا لا يقدح بإمامة البخاري ولا مسلم، ولا بمكانة صحيحيهما. لكن الله يأبى العصمة لكتابٍ إلا كتابه العزيز.

ومن هنا نعلم أنه إذا أخرج البخاري حديثاً ولم يخرجه مسلم، كان ذلك فيه دلالة على عِلّةٍ قد تكون قادحة (وقد لا تكون). لأن شرط مسلم – غالباً– أسهل من شرط البخاري. وليس هذا على إطلاقه فقد يختلف اجتهادهما في توثيق الرجال. فظهر هنا تفوق صحيح البخاري وتقديمه على غيره. إذا أن البخاري قد يروي بالمعنى (وهذا نادرٌ للغاية كما ثبت بالمقارنة). ومسلم شديد العناية باللفظ ولا يحدث إلا من أصوله. فإذا اختلف اللفظ بينهما عن نفس الشيخ، كان لفظ مسلم هو الراجح. وقد يكون غير ذلك إن اختلف الشيخ.

وقد وجدت من المفيد عن ترجيح اللفظ الرجوع إلى مسند أحمد. فإن أحمد كان عادة أعلى إسناداً من مسلم، مع شدة حرصه على الرواية باللفظ ومن أصوله وكتبه. وقد حرص أحمد على ذكر كل الأحاديث المشهورة التي قد تحتمل الصحة في مسنده. فالحديث الذي يخرجه البخاري أو مسلم، ولا يخرجه أحمد، هو حديث غريب. وقد يكون صحيحاً وقد لا يكون. ولكن هذه من الإشارات التي يجب الانتباه إليها.

ثم إننا نظرنا فيما انتقده الحفاظ على صحيحي البخاري ومسلم، فلم نجد ولا حديثاً موضوعاً واحداً. وإنما قد تجد أحاديث لها أصل لكن حصل فيها تخليط أو إدراج. وغالباً ما يبيِّن ابنُ حَجَر الإدراجَ في صحيح البخاري. ثم لا بُدّ من التفريق بين ما علقه البخاري في صحيحه بصيغة جزم (وهو صحيح لكن على غير شرط كتابه)، وبين ما علقه بصيغة التمريض (وهو من نوع الحسن الضعيف الذي يحتمل الصحة إن لم يبين علته)، وبين ما أسنده في كتابه (وهو الصحيح على شرط البخاري). وهو أيضاً يتساهل في غير الأحكام كما ثبت لي بالاستقراء وكما أشار إليه بعض الحفاظ. ولا بد من التفريق بين ما أخرجه مسلم في الأصول وبين ما أخرجه في الشواهد. فهو يرتب الأحاديث –عادةً– في كل بابِ بحسب قوة إسنادها. فعندما يتعارض المتن الأول مع الثاني نقدّم الأول لأنه الأصل، بينا الثاني شاهد له.

وقد وجدت كلاماً مختصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية يوضح هذه الفروق. وهو من الجودة بمكان. فرأيت أن أنقله هنا وإن كنت أبغي أن أرجع لمناقشة هذه الأحاديث بتفصيل أكبر إن شاء الله.

ـ[محمد الأمين]ــــــــ[12 - 03 - 02, 07:25 ص]ـ

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" (ص86)، وهو في "مجموع الفتاوى" (1\ 256):

«ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري. بل كتاب البخاري أجلُّ ما صُنِّف في هذا الباب. والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعِلله، مع فقهه فيه. وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه. ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً اختُلِفَ في إسناده أو في بعض ألفاظه، أن يذكر الاختلاف في ذلك، لئلا يغترَّ بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه. ولهذا كان جمهور ما أُنكر على البخاري مما صحّحه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجّاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه.

1– كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركعات وبأربع ركعات، كما روى أنه صلى بركوعين. والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم. وقد بَيَّن ذلك الشافعي. وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم. ومعلومٌ أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان. ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.

2– وكذلك روى مسلم: "خَلَق اللهُ التربةَ يوم السبت". ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى ابن معين والبخاري وغيرهما، فبينوا أن هذا غلط ليس هذا من كلام النبي ?. والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم، وكان خلقه يوم الجمعة. وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة. وقد رُوِي إسنادٍ أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد.

3– وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي أن يتزوج بأم حبيبة وأن يتخذ معاوية كاتباً. وغلَّطه في ذلك طائفة من الحفاظ.

ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علما قطعيا أن النبي قالها. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر».

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير