الوجه الثالث: أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم خرج جوابا لهم حين أخبرهم " أنهم من آباءهم " فقالوا: بلا عمل؟ فقال:" الله أعلم بما كانوا عاملين " قاله ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 83) ثم ذكر حديث عائشة المتقدم فقال: ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم اهـ (5).
وقال أيضا في طريق الهجرتين (ص 637): ويجاب عن هذا بأن الحديث (أي حديث عائشة) إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة، ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم إن شاء الله ... الخ كلامه.
الوجه الرابع: أن هذا القول إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم أنهم في الجنة بوحي من الله تعالى.
قال ابن حزم في الفصل (2/ 385 - 386) بعد ذكر حديث عائشة وغيره: وهذان الحديثان لا حجة لهم في شيء منهما، إلا أنهما إنما قالهما رسو الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة، وقد قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول» وما أدري ما يفعل بي ولا بكم «(6) قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مطعون رضي الله عنه» والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي «(رواه البخاري (رقم 1243) وغيره) وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدرا (7) اهـ المراد منه.
هوامش:
(1) قال أبو عبد الباري: هذا الجواب من ابن القيم هو بناء على مذهبه في امتحان الأطفال يوم القيامة، وقد قال قبل هذا في الكتاب: " إن الله لم يخبر أن الموءودة في النار بلا ذنب، فهذا لا يفعله الله قطعا، وإنما يدخلها النار بحجته التي يقيمها يوم القيامة إذا ركب في الأطفال العقل وامتحنهم وأخرجت المحنة منهم ما يستحقون به النار " وقد ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتبه، مثل طريق الهجرتين (ص 650) لكنه لا يستقيم على مذهب من يقول بأنهم في الجنة إلا من جهة الاتفاق على حمل الحديث على الخصوص، سواء على تلك المرأة بخصوصها، أو على من اتضح عند الامتحان استحقاقه للنار، فهذا مشترك بين الفريقين والله أعلم.
(2) رواه البخاري (رقم 1946) وقال الحافظ في الفتح (4/ 216): أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب الحديث ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله اهـ بتصرف يسير.
(3) هذا سند رجاله ثقات غير أبي مراية العجلي واسمه عبد الله بن عمرو، روى عنه أسلم العجلي وقتادة، له ترجمة في التاريخ الكبير (5/ 154) والجرح والتعديل (5/ 118) والكنى والأسماء لمسلم (1/ ترجمة 3342) والمقنتى في سرد الكنى للذهبي (2/ 68) وغيرهم لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا، وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/ 236): كان قليل الحديث.
(4) انظر ذلك في: طبقات الحنابلة لأبي يعلى (2/ 270) وصريح السنة للطبري (ص 25 - 26، 27) ومجموع الفتاوى (6/ 206 - 207) ودرء التعارض (8/ 530) وبدائع الفوائد لابن القيم (1/ 16) وشفاء العليل لابن القيم (ص 277).
(5) قال أبو عبد الباري: هذا الجواب لا يستقيم على مذهب من يقول بأنهم في الجنة على العموم، إلا أن يقال: إن حكمهم على العموم والإطلاق لا على التعيين، فإنه لا يجزم لمعين بجنة ما لم يرد فيه دليل خاص، لا فرق في ذلك بين الكبار والصغار والله أعلم.
(6) هذا فيه إشارة إلى أن هذه الآية في سورة الأحقاف وهي سورة مكية، وسورة الفتح التي فيها المغفرة نزلت عام الحديبية كما في البخاري (رقم 4833) وغيره.
(7) يريد ما رواه البخاري (رقم 3983) وغيره من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة " أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم ".
يتبع إن شاء الله تعالى ...........................................
ـ[أبو عبد الباري]ــــــــ[27 - 04 - 05, 01:06 م]ـ
أذكر في هذه الحلقة ما ترجح لديَّ وقد يتضح للقارئ من خلال الحلقة السابقة، ولكن من باب زيادة الإيضاح فأقول مستعينا بالله تعالى:
¥