الرأي الراجح وبيان وجه الترجيح
هذا الفصل هو الأخير من هذه الرسالة، وهو الذي يتضمن الخلاصة من كل ما قيل في الفصول السابقة، لكنه لا يغني عنها لمن أراد الوقوف على تفصيل الحجج والمناقشات المفصلة.
والذي يترجح بعد ما تقدم من البحث والنقاش – في نظري – هو القول بأن أطفال المشركين الذين ماتوا صغارا أنهم في الجنة من غير اختبار يجرى لهم يوم القيامة، وذلك لصحة ووضوح الأدلة المتكاثرة فيه، وعدم مقاومة أدلة الأقوال الأخرى، وبيانه باختصار كالآتي:
*- أما القول بالاختبار والامتحان يوم القيامة فلم يصح فيه شيء مطلقا وإن قاله بعض كبار المحققين، لكن العبرة بالحجة والدليل، حيث ورد فيه حديث معاذ بن جبل لكنه لا يصلح للتقوية، وحديث أنس مثله حيث اجتمعت فيه علل متعددة من جهالة عبد الوارث راويه عن أنس، وضعف ليث بن أبي سليم، ومخالفته لروايات الآخرين كما تقدم التفصيل، وحديث أبي سعيد الخدري فيه عطية العوفي ضعيف مدلس شيعي وقد عنعنه فيصلح للاعتبار عند بعض العلماء لكنه لا عاضد له، وهي مع ذلك مخالفة للروايات الصحيحة الصريحة بأنهم في الجنة، وعليه: فهذا القول ضعيف في ميزان النقد والتمحيص، ولا يقوم على دليل صحيح، وأما ما قيل من إجماع أهل السنة عليه فقد قدمنا بطلانه، وأشبعنا القول في نقول أبي الحسن الأشعري في المقالات في الحلقة الخامسة بما أغنى عن الإعادة والله اعلم.
*- وأما القول بالتوقف فليس عليه دليل صريح، وقد اختلف في المراد من التوقف أهو الرد إلى المشيئة المجردة، أو الرد إلى الاختبار؟ فإن كان الثاني فقد تقدم قريبا، وإن كان الأول فليس فيما احتجوا به ما يدل على ذلك، وغاية ما فيه قوله صلى الله عليه وسلم " الله اعلم بما كانوا عاملين "، وقد تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يكشف المعنى وأنه قاله لهم جوابا لما سألوا عن معنى قوله " هم من آبائهم" على أن الحديث فسر بتفسيرات غيرها محتملة يسقط معها الاستدلال، والنصوص الصريحة في أنهم في الجنة لا تعارض بحديث محتمل لأكثر من معنى وقد تقدم تفصيل المناقشة.
*- وأما القول بأنهم في النار مع آبائهم، فهو وإن كان أقوى من القولين السابقين من حيث الدليل إلا أنه ليس بالدرجة التي تعارض النصوص الواردة بأنهم في الجنة على العموم والجملة، وما ورد في ذلك منه ما لا يصح وهو حديثا خديجة وعلي رضي الله عنهما، ومنه ما هو خارج عن محل النزاع وهو حديث الصعب بن جثامة، ومنه ما هو قابل للتأويل وهو حديث سلمة بن يزيد وابن مسعود في الوائدة والمؤودة، والجمع ممكن بحمل هذا الحديث على واقعة معينة وقصة خاصة ورد فيها الخبر تستثنى من الحكم العام، ولا يعارض ذلك قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " لأن ذلك ما لم تكن هناك قرينة تؤيد حمل اللفظ العام على سببه الخاص كما قيل في حديث " ليس من البر الصوم في السفر " وهو هنا كذلك للأحاديث الكثيرة المعارضة لهذا الحديث وفيها ما هو صحيح كما تقدم البيان.
ثم لو لم يمكن الجمع فالترجيح ممكن بأن النصوص الكثيرة أرجح من حديث بطريقين، كما أن موافقة الأحاديث الكثيرة للقواعد المتيقنة وظواهر القرآن ترجح هذه الكثرة، فكيف إذا اجتمع هذان الوجهان؟ وقد تقدم تفصيل أكثر من هذا في الحلقة الخامسة أثناء مناقشة هذا القول فليراجع.
*- وبكل ما تقدم يتضح – في نظري والعلم عند الله – أن أقوى الأقوال، وأجراها على القواعد، وأصحها أدلة هو القول بأنهم في الجنة على العموم، وقد تقدم التفصيل لمن رامه في مواضعه.
والله تعالى ولي التوفيق والهداية، ونسأله المغفرة في الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبي الهدى والرحمة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
يتبع ...................................
الحلقة السابعة والأخيرة: القول في أطفال المسلمين (من باب التكملة)
ـ[أبو عبد الباري]ــــــــ[28 - 04 - 05, 12:43 ص]ـ
الحلقة الأخيرة: القول في أطفال المسلمين:
القول في أطفال المسلمين
¥