والغريب في هذا الباب هو اضطراب الحافظ أبي عمر بن عبد البر في نقل المذاهب في المسألة، فقد تقدم عنه أنه نقل الإجماع من أهل السنة على أنهم في الجنة، ثم نقل بعد قليل عن هؤلاء الأئمة أنهم قالوا بالتوقف، وبهذا الاضطراب انتقده ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 81) فقال: وأبو عمر اضطرب في النقل في هذا الباب ... ثم نقل أقواله المتضاربة ثم قال: فتأمل كيف ذكر الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة، وأنه لا يعلم في ذلك نزاعا، وجعل القول بالمشيئة فيهم قولا شاذا مهجورا، ونسبه في الباب الآخر إلى الحمادين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأكثر أصحاب مالك، وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان، ورب العالمين هو الذي لا يضل ولا ينسى اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره (3/ 32): فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك، وأن الولدان كلهم تحت المشيئة ... ثم ذكر كلامه المتقدم فقال: وهو غريب جدا، وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة ذكره القرطبي (ص 592). نحو ذلك أيضا والله أعلم اهـ.
لكن قال البيهقي في الاعتقاد (ص 195) وهو يشرح حديث الفطرة: وعلى مثل ذلك يدل حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في أطفال المسلمين ثم ورى الحديث فقال: فهذا الحديث يمنع قطع القول بكونهم في الجنة، وحديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر "أنه طبع كافرا" يدل على ذلك فقد كان أبواه مؤمنيناهـ.
قال أبو عبد الباري: التحقيق: أن الخلاف ثابت عن بعض الفرق الشاذة، وأما عن أهل السنة فالذي عليه الجماهير أنه لا خلاف بينهم في ذلك أي أنهم في الجنة، وإنما حكى الخلاف الحافظ أبو عمر ابن عبد البر لكنه اضطرب فيه فنقل أيضا الإجماع، ولولا أنه اضطرب في النقل لكان حجة، ولكن مع الاضطراب لا يثبت الخلاف والله أعلم.
قال الهيتمي في الزواجر (فيض القدير2/ 236) بعدما ذكر حديث عائشة في الطفل الأنصاري: وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث أن أطفال المسلمين لا يقطع لهم بدخول الجنة، واشتد إنكار العلماء عليه في هذه المقالة الشنيعة المخالفة للقواطع، والحديث ظاهره غير مراد إجماعا اهـ.
وقال عبيد الله المباركفوري في المرقاة (1/ 168): قد أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة ودل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة اهـ.
ثالثا: حجة من قال بالتوقف والجواب عنها
وأما ما احتج به من قال بالتوقف في أطفال المسلمين فهو قسمان:
الأول: عام يشمل أطفال المسلمين وغيرهم.
الثاني: خاص بأطفال المسلمين
أما القسم الأول فسيأتي في مناقشتها في الفصل السادس أنها لا تدل على التوقف على خلاف في تفسير المراد منها.
وأما القسم الثاني وهو الخاص بأطفال المسلمين ففي أحاديث هي:
الحديث الأول: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ?: " أتي بصبي من صبيان الأنصار ليصلي عليه، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوء ولم يدركه ... ذنب قال النبي ?: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق لها أهلها، وخلقهم في أصلاب آبائهم ".
رواه مسلم في صحيحه (رقم 2662) وابن عبد البر في التمهيد (18\ 104) من طريق فضيل بن عمرو وطلحة بن يحيى كلاهما عن عائشة بنت طلحة عن خالتها أم المؤمنين – أي عائشة – به.
وهذا يرد ما قاله الذهبي في الميزان (2/ 343) وتبعه ابن الوزير في العواصم (7/ 251) من تفرد طلحة به، وقد أشار ابن عبد البر في التمهيد من قبل إلى مثل هذا القول ورده فقال: وزعم قوم أن طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث، وليس كما زعموا ثم ذكر رواية فضيل بن عمرو أهـ، لكنه استضعفه في الاستذكار فقال (3/ 109): وهو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة، وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث اهـ.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن القطع لهم بالجنة، وأحال أمرهم على ما سبق من علم الله فيهم.
¥