تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إذ روى الإمام مالك رحمه الله في "الموطأ" عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا قبل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجدا شديدا. فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك. فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. فذكرت ذلك لها. فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شرا، وقال: لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسول الله ما شاء.

ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لهذه المرأة؟ ", فأخبرته أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ ". فقالت: "قد أخبرتها". فذهبت إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرا، وقال: "لسنا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء". فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده" (7).

وروى في "الموطأ" كذلك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها: قالت: "إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم". ثم ضحكت (8).

وروى الإمام مالك في "الموطأ" كذلك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن عبد الله ابن عباس سئل عن القبلة للصائم؟. فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب (9).

وفيه عن نافع أن ابن عمر كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم (10).

قال القاضي رحمه الله: "ذكر حديث أم سلمة رضي الله عنها وهو مثل الذي قبله في الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإحالة الصحابة في قصد البيان عليه، كما كان هو يحيل عليه صلى الله عليه وسلم عليه. وقول السائل: الله يحل لرسوله ما شاء. يعني أنه: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يختص بأشياء ظن أن هذا منها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأصل الاسترسال على الاستدلال بجميع أفعاله حتى يقوم الدليل على تخصيصه بها".

"وقوله: إني لأتقاكم لله. ذكر قوله: أخشاكم. مقرونا بالرجاء، وذكر قوله: أتقاكم. على القطع، ورجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع، لأنه لم يخب ظنه بربه، وقطعه قطع؛ لأنه خبر عن حقيقة حاله، أعلمهم بذلك على سبيل الاعتقاد والإعلام بالدين، لا على سبيل الفخر على المسلمين".

"فقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، وكانت تقول: وأيكم يملك نفسه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك نفسه؟. فلذلك شدد فيه ابن القاسم عن مالك في كل صوم؛ لأنها تدعو إلى خير، ورخص فيها في التطوع من رواية ابن وهب، وذكره ابن حبيب".

"والصحيح عندي: ما في الحديث من قولها: وأيكم يملك إربه؟. فلا ينبغي لأحد أن يتعرضها إلا أن يكون شيخا منكسر الشهوة، ولعل هذا السائل كان كذلك؛ لأن في تعاطيها تغريرا بالعبادة، وتعريضا لها لأسباب الفساد، وذلك مكروه باتفاق من الأمة حيث يُتوقع. وهذا مثله" (11).

وقد جمع القاضي أبو بكر ابن العربي – رحمه الله تعالى – بين هذه النصوص بأن حمل نهي الصحابيين الجليلين على الكراهة، وأن تجويز النبي صلى الله عليه وسلم لذلك لا يدل على إطلاقه إلا لمن يملك نفسه، فجمع بين النصوص، واستأنس برأي الإمام وتلاميذه، ولم يهمل أيا منها.

الخاتمة في خلاصة الموضوع

اتضح لنا من هذا البحث المجمل أن القاضي أبا بكر ابن العربي رحمه الله تعالى كان إماما من الأئمة الكبار، عالما موسوعيا، استثمر ما اكتسبه من بيئته الراقية، ورحلته الواسعة، ووظائفه العالية من التجارب، وبوتقها في قالب فقهي متين، اغتنم فيه القواعد الأصولية، وأعملها على ما حباه الله به من الاطلاع الواسع على الكتاب والسنة، وفقه السلف الصالح، ليمثل بذلك الفقيه المتضلع، الذي لا يهمل النصوص أو يغفلها، كما لا يتعسف في قلب المعاني وخلق الاستنباطات الشاذة.

فهو فقيه مالكي بالدرجة الأولى، مجتهد ناقد، حر الرأي والضمير، قوي العارضة، متمكن من أصول الفقه ووسائل الترجيح، يصدق فيه ما وصفه به ابن بشكوال بقوله:

"كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، متقدما في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق وحسن المعاشرة، وكثرة الاهتمام وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود" (12).

وإلى هنا تم ما رمت جمعه، وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، وصلى وسلم على نبيه ورسوله خير العباد، وآله وصحبه وكل مهدي هاد.

الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني غفر الله له


(1) "ابن العربي المالكي الإشبيلي وتفسيره أحكام القرآن" (ص295) ..
(2) أخرجه أبو داود في سننه (ؤقم: 1609)، وابن ماجه في سننه (رقم 1827) عن ابن عباس رضي الله عنهما) ..
(3) أخرجه أبو داود في سننه (رقم: 1619)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 314) ..
(4) أخرجه مسلم في صحيحه (رقم: 1072) عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه.
(5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 282)، والبخاري في "الصحيح" (رقم: 1490 - فتح)، ومسلم في صحيحه: (رقم: 1620)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(6) "القبس" (2/ 71).
(7) "الموطأ" (2/ 132 – قبس) ..
(8) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم: 1928 - فتح الباري)، ومسلم في صحيحه (رقم: 1106) ..
(9) "الموطأ" (2/ 133 - القبس) ..
(10) "الموطأ" (2/ 133 – القبس) ..
(11) "القبس" (2/ 133) ..
(12) "ابن العربي المالكي الإشبيلي وتفسيره أحكام القرآن" (ص389).
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير