تصاغ أواني، فلها قيمة نظراً لما لها من المنفعة المقصودة باعبتار مثالها، أمّا هذه الأوراق فأي انتفاع يقصد بها لعينها سوى أنها وثيقة بحق، فهي صكوك دَين قطعاً، ولو قطع النظر عمّن هي في ذمته وعن ضمانة الدولة ما ساوى شيئاً، بدليل أنّ أوراق الدولة الروسيّة والنمساويّة لمّا سقطت الدولة التي كانت ضامنة لها، وأفلس البنك الذي كانت في ذمته لم تبق لها قيمة تذكر، بل صار الإفرنك منها لا يساوي سانطيمين، وذلك نصف درهم.
ومما ينفي كونها عروضاً أنها إذا كانت جديدة أو بالية مقطعة متسخة فالقيمة واحدة لا تنقص بقيمتها ولا تزيد بحسنها، والعرض بخلاف ذلك؛ فإنّ قيمته تابعة لأوصافه -كما هو معلوم-، وأنها إذا زورت بطل التعامل بها، وعُزّر من زورها بمثل أو أكثر، مما يعد به مزور رسم العدول.
ويعين أنها رسومُ دَين في الأصل: أن قدر قيمتها الآن تابع لقدر ما في صناديق الذي هي في ذمته من العين الاحتياطي، زيادة ونقصاً، فهي كرسوم الدين سواء بسواء، بل هي هي، وهل يوجد عرض بهذه الصفة، يزيد ثمنه وينقص لغيره، سواء كان صحيحاً سالماً أو متلاشياً؟ كلا ثمّ كلا.
ومن غريب ما يسمع أنّ الذين اخترعوا هذه الأوراق وعملوها معترفون بأنها أوراق دين في ذمتهم ملتزمون بأدائها، وأنتم تقولون لهم إنها ليست ديوناً بل عروضاً! كل هذا نشأ عن عدم اعتناء أهل العلم بأحوال زمنهم وتهورهم في الأحكام قبل تصورهم» (13).
ثم قرّر هذا -رحمه الله- وأكده بأنّ المقرر عند علماء الاقتصاد أنّ هذه الأوراق أنواع ثلاثة: ما له سعر اختياري، وما له سعر قانوني، وما له سعر إلزامي، وقال بعد كلام ما نصّه: «فهي –أي: الأوراق النقديّة- تكون (صكوك دين) في الحالات الثلاث كلها».
ثانياً: عدم جواز بيع الأوراق النقديّة بعضها ببعض مفاضلة ولا بالتأخير:
وهذا هو عنوان (الفصل الأول) في كتاب الحجوي المشار إليه آنفاً، وقال تحته: «إنها صكوك دين، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مفاضلة ولا بالتأخير، ولا يجوز بيعها بأحد النقدين كذلك، وأمّا من أباح ذلك وبناه على أنها عروض فلم يحرر مناطاً لمسألة، ولا تصوّر حقيقة تلك الأوراق، وإنما هي صكوك دين، فحكم المعاملة الجارية بين الناس أنها إذا أبدلت بالنقد فهي حوالة تجري على حكمها، فيشترط فيها المماثلة، ولا تجوز المفاضلة مهما اتّحد الجنسان، وتجوز إذا اختلفت كإبدال هذه الأوراق التي في المغرب بالذهب الإنجليزي، وتجب المناجزة، ولا يجوز التأخير سواء اتّحد الجنس أو اختلف».
ومن الأمور المهمة التي لا يجوز لنا أن نتجاوزها ونحن نتكلّم عن هذه المسألة:
ثالثاً: علّة الربا في الذهب والفضّة:
من المعلوم المتّفق عليه الوارد في النصوص الكثيرة (14) قوله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة. . . (15) مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد».
ووقع خلاف بين العلماء في علّة الربا في الذهب والفضّة، والخلاف واقع بينهم في باقي الأصناف المذكورة في الحديث على وجه أظهر وأشد، ولست بصدد النقل والتفصيل في ذلك (16)، ولكنني أجتزئ على ما يخص موضوعنا،
فأقول وبالله -سبحانه وتعالى- أصول وأجول:
إنّ مسألة الربويات الست لا بدّ من خضوعها لمبحث (تحقيق المناط)، فالست خصّت لحكمة إلهيّة بلا أدنى ريب، وهذه الحكمة لم يكشفها الشرع لنا، لكنّها ضبطت بضوابط عامّة رآها الفقهاء في زمانهم صالحة لنمط حياتهم، على خلاف يسير من حيث الواقع في التنزيل والردّ، مع إحكام أصول المسألة.
ولكنّ الناظر في جزئيّاتها يجد متفرقات جمعت بناءً على هذه القاعدة، وهي لا تستحق هذا الجمع؛ فإلحاق الخشب على الذهب بجامع الوزن، أو الدواء على القمح بجامع الطعم، أو الحِنَّاء على البُر بجامع الكيل؛ لا يستقيم!
والذي أراه -والله أعلم-: إن الإلحاق بهذه الأصناف الست المذكورة في الحديث لا بجامع العلّة، وإنّما بجامع تحقيق -أو ترجح- نفي الفارق المؤثر بينها وبين ما شابهها.
قال العلامة الشنقيطي في «المذكرة» (ص249): «الإلحاق من حيث هو ضربان:
الأول: الإلحاق بنفي الفارق.
والثاني: الإلحاق بالجامع.
وضابط الأول أنّه لا يُحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يُكتفى فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم».
¥