ويعجبني -غايةً- في هذا الموضوع كلام ابن رشد في أوائل «بداية المجتهد»: «فمثال القياس: إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحدِّ، والصداق بالنّصاب في القطع.
وأمّا إلحاق الربويّات بالمقتات، أو المكيل، أو المطعوم؛ فمن باب الخاص أُريدَ به العام، والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني؛ فليس ينبغي لها أن تنازع فيه؛ لأنه من باب السمع».
أقولُ: فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص داخل في المفهوم، وهكذا ينبغي أن يجري الأمر في هذا الباب الدقيق.
وهذا -هكذا- يغلق الأبواب المُشْرَعة أمام المتحايلين وقليلي الفقه والدين، في المنازعة في إجراء الربا -اليوم- في النقود التي بأيدي الناس بزعم أنها عروض تجارة!
وفي كتاب «رفع الآصار» -ذاك! -إعراض عن هذا التقرير، وتغافل عنه؛ فجميع الأثمان من الفلوس والدنانير والدراهم تأخذ حكم الذهب والفضّة، من أي فئة كانت، سواء الدولار، أو الجنيه، أو الدينار، ورقاً كانت أو معدناً، لانتفاء الفارق بينهما وبين الذهب في عهد التشريع، وفي هذا ردٌّ على من جعلها سلعة، ويجري فيها الربا، وذلك مما يُفضي إلى تذبذبها، وعدم استقرارها، وتكدسها في أيد قليلة، فيلحق الضرر بالعامّة (17).
وقد أفصح ابن القيم في «الإعلام» (3/ 401 – بتحقيقي) عن هذا بقوله: «وسرّ المسألة أنّهم مُنعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأنّ ذلك يُفسد عليهم مقصود الأثمان، ومُنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأنّ ذلك يُفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأنّ التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: «تِبْرُها، وعَينها سواء» (18)؛ فظهرت حكمة تحريم ربا النَّسَاء (19) في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأنّ هذا هو تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع».
ولا بدَّ من التنبيه على أنّ هذا المسلك فيه (تحقيق المناط) في الربويات، على وجه لا يعارض المقرر عند الفقهاء الكبار الثقات، ومنه يظهر حرمة بيع الأوراق النقديّة نسيئة بزيادة، وأن الربا يلحقها ويجري فيها، كالذهب والفضة سواء بسواء.
رابعاً: فصّل بعضُ أهل العلم المتأخّرين (20) الحكمة من ذلك بكلام بديع غايةً؛ فقال: «الحكمة التي خلق الله الذهب والفضّة لأجلها هي: أنّ قِوام الدنيا بهما، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، إذ لا يَرُدَّان حَرّاً ولا برداً، ولا يُعذّبان جسماً، والخلق -كلّهم- محتاج إليهما، من حيث إنّ كلّ إنسان محتاج إلى أشياء كثيرة في مطعمه وملبسه، وقد لا يملك ما يحتاج إليه، ويملك ما يستغني عنه؛ كمن يملك القمح -مثلاً- وهو محتاج إلى فرس، والذي يملك الفرس قد يستغني عنه ويحتاج إلى البُرّ، فلا بدّ بينهما من معاوضة، ولا بدّ من تقدير العِوض؛ إذا لا يُعطي صاحب الفرس فرسه بكل مقدار البرّ، ولا مناسبة بين البُر والفرس حتى يقال: يُعطي منه مثله في الوزن! أو الصورة! فلا يدري: أنّ الفرس كم يساوي بالبُرّ.
فتتعذر المعاملات في هذا المثال -وأشباهه-؛ فاحتاج الناس إلى متوسط، يحكم بينهم بالعدل؛ فخلق الله الذهب والفضّة حاكمين بين الناس في جميع المعاملات؛ فيُقال: هذا الفرس يسوى مئة دينار، وهذا القدر من البُرّ يسوى مثله.
وإنّما كان التعديل بالذهب والفضّة؛ لأنه لا غرض في أعيانهما، وإنما خلقهما الله لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمَين بالعدل.
ونسبتهما إلى جميع الأموال نسبة واحدة؛ فمن ملكهما كأنه مَلَكَ كلّ شيء، ومن ملك فرساً –مثلاً-؛ فإنّه لم يملك إلا ذلك الفرس، فلو احتاج إلى طعام، ربما لم يرغب صاحب الطعام في الفرس؛ لأنّ غرضه في ثوب
–مثلاً-؛ فاحتيج إلى ما هو في صورته، كأنه ليس بشيء، وهو –في معناه- كأنه كل الأشياء، والشيءُ إنما يستوي نسبته إلى الأشياء المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصّة؛ كالمرآة: لا لون لها، وتحكي كلّ لون.
¥