الدليل الثالث: أنَّ إطلاق القول بأنَّ حكم الحاكم لا يرفع الخلاف = يؤدي إلى الفُرْقَة والشقاق بين المسلمين، والافتيات على ولي الأمر؛ فالمصلحة تقضي بأن يكون حكمه رافعاً للخلاف وملزماً للأمة.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: الخير كلُّ الخير في اتباع الكتاب والسنة وهدي سلفنا الصالح، ولا عبرة بالمصالح والمفاسد المتوهمة.
ثانياً: أنَّ الناظر إلى الضوابط والشروط المذكورة في ثنايا القول الأول يرى أنَّ الأمر منضبط لا يخشى منه فرقة ولا نزاع.
ثالثاً: أنَّ هذه المصالح والمفاسد المدعاة، مقابلة بمصالح ومفاسد أخرى؛ فالاحتكام عند اختلافها إلى النصوص الشرعية، وهي تؤيد القول الأول.
الدليل الرابع: أنَّ أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – أتمَّ الصلاة في منى، وخالفه جماعةٌ من الصحابة في اجتهاده ذاك، ومع هذا صلَّى خلفه ابن مسعود – رضي الله عنه – درءً لمفسدة الاختلاف على أمير المؤمنين، وقال: الاختلاف شر.
يناقش هذا الاستدلال بما يلي: أنَّ عثمان – رضي الله عنه – لم يلزم الناس باجتهاده.
الدليل الخامس: أنه يجب على من أمره الإمام بالخروج للجهاد أن يخرج، وهذا قول عامة العلماء؛ فيقاس عليه غيره من الأمور التي يلزم فيها ولي الأمر بشيءٍ لم يخالف فيه نصاً ولا إجماعاً.
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
1 – أنَّ وجوب الخروج لمن عيَّنه الإمام مرجعه النصوص الشرعية، كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض .... " [التوبة: 38]، وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتفق عليه: " وإذا استنفرتم فانفروا ".
2 – أنَّ الجهاد في أصله مشروع لا يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين، فإذا أمر به ولي الأمر كان من الأمور الواجب طاعته فيها للنصوص الواردة في وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف.
وإليك بعض كلام القائلين بهذا القول:
1 - قال محمد رشيد رضا في مجلة المنار (4/ 368): وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس، ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويُلْزِم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما سنبينه تبيينًا، فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران، وإن أخطأوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد، ويُعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم. 2 - وقال – رحمه الله – في فتاوى المنار (14/ 731) عندما سئل السؤال الآتي: ما قولك دام فضلكم في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه، وأمر وألزم بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى: [وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] (آل عمران: 32) إلخ، أم كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا شيء قد عم البلدان والأقطار. الجواب: إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجب علينا أن نعمل بها؛ إذا وضعها أولو الأمر منا وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح والضروريات،
وإن كانت جائرة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها لم تجب الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وصححوه. ورواه الشيخان في صحيحيهما وأبو داود والنسائي من حديث علي - كرم الله وجهه – بلفظ: (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)،
ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن، ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب أو مفسدة تجتنب، ولا بغير هذا القيد. وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة لا عملاً بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان،
¥